المقالات

تضييع الأوقات في تجريح القدوات

مما لا شك فيه أنه لا يكاد يسلم أحد من الخطأ والزلل ما دامت العصمة للأنبياء وحدهم، ومن أنشد الكمال في الناس فقد أنشد المحال.

وقد ابتُلي كثير من طلاب العلم – ولا سيما من الشباب – باشتغالهم بتصنيف القدوات من العلماء والمشايخ والدعاة وتجريحهم، وتأليف الكتب والرسائل والمقالات في الردود، وجعْل ذلك همهم الشاغل، وتقديمه على تصحيح عقيدة الناس وتعليمهم أمور دينهم.

والناظر في الساحة الدعوية يجد انصراف طائفة من المحسوبين على طلاب العلم إلى إقامة المحاضرات والندوات وأركان النقاش للتحذير من أهل العلم والفضل، بحجة أنهم أخطؤوا في المسألة الفلانية أو خالفوا السلف في الموضع المعين، فتراهم يحشدون لذلك أقوال العلماء ونقولات الكتب، دون تثبت أو تروٍ، ويفسرون ما قاله العلماء على ضوء علمهم القليل؛ بل تجاسر بعض حدثاء الأسنان منهم ليتجاوز أقوال العلماء، فيقول: (رأيي في العالم الفلاني، أو قولي في الداعية الفلاني)!

وها هي مواقع التواصل الاجتماعي تضج بأمثال هؤلاء ممن لا همَّ لهم سوى تصنيف العلماء والنيل منهم، لينتقل الحديث من النقاشات التي كانت محصورة بين طلاب العلم إلى السوح المفتوحة، فصرنا نقرأ عبارات يتبادلها بعض المنسوبين إلى طلاب العلم، لا تليق بعامة الناس ناهيك عن خواصهم؛ لتكون محصلتها التنفير من العلماء والدعاة، وبالتالي التنفير من الدين والتدين!

والمحزن في الأمر أن كثيراً من هؤلاء الشباب المتطاولين على العلماء وأصحاب السبق في الدعوة قد نصَّبوا أنفسهم حماة للدين، فراحوا يصنفون ويجرحون وقد ظنوا في أنفسهم خيراً؛ لحفنة من كتب قرؤوها، أو حزمة من دروس حضروه، بل بلغ التجاسر ببعضهم أن تطاول على مشايخه الذين تعلم على أيديهم وبدَّعهم، ووصفهم بالدجل والتهاون والخروج عن المنهج القويم!

وهؤلاء الذين انشغلوا بتصيًّد أخطاء العلماء هم في الغالب من الذين أهملوا تزكية نفوسهم، وفاتهم التأدب بآداب طلب العلم، واستعجلوا التصدر قبل التأهل، حتى إن كثيراً منهم قد لا يعرف أصول العلم والطلب، ولو اختبرت أحدهم في أصول الدين لما استطاع أن يجيب عن بعض الأسئلة، ولو طلبت إليه أن يقرأ عليك القرآن لما أكمل جزءاً أو جزئين، وإذا تحدث أخطأ في الاستدلال ولحن في الآيات والأحاديث واللغة! فلا يعرف ناسخاً من منسوخ، ولا راجحاً من مرجوح، ولا فاعلاً من مفعول!

وإذا أمْعَنَّا النظر في كثير من الأحكام التي يطلقها هؤلاء الشباب على العلماء والدعاة نجد قلة التثبت فيها معلماً واضحاً، فترى المسارعة بنقل الكلام عن العلماء دون أن يستوثق الواحد من صحة ما نَقَل، ودون معرفة بالسياق الذي قيل فيه هذا الكلام في العالم، وهل رجع العالم عنه أم لا؛ وتجد بعضهم يورد مقطع فيديو قد يكون مدبلجاً بأحد البرامج الحديثة التي بإمكانها أن تدمج المشاهد والأصوات وتحرِّف الأقوال، فيصبح هذا الشاب كالإسفنج يمتص كل ما يرد إليه دون تدقيق أو تحرٍّ، وهذا مخالف لهدي النبيِّ الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع) رواه مسلم، و(بئس مطية الرجل زعموا) السلسلة الصحيحة.

ثم من أدرى هذا الشاب بأن ما قاله العالم الفلاني في العالم الفلاني ليس من قبيل كلام الأقران الذي يُطوى ولا يُروى كما قال أهل العلم بذلك، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما الذي قال: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة)، ومنهم الإمام الذهبي رحمه الله الذي قال: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، ولا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو مذهب أو حسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصراً من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس).

ولا أقول أن من أخطأ من العلماء لا يوضح خطؤه إطلاقاً، بل يحذر من خطئه بأدب ووقار، لا كما يفعل البعض من التحذير من العالم في شخصه وإطلاق الحكم على مجمل علمه، دون مراعاة لمكانته وفضله.

ثم إن الجرح والتعديل والتبديع والتفسيق ليست من مهمة طلاب العلم بل من مهمة العلماء الربانيين الراسخين الذين يطلقون هذه الأحكام بعد التثبت وإقامة الحجج وإزالة الشُّبه، وليس لكل من هبّ ودبّ أن يفسِّق من شاء ويبدِّع من شاء!

قناعتي أن أكثر الناس نقداً أقلهم عطاءً، وأن من ينشغلون بعيوب الناس ويتصيَّدون أخطاءهم يهملون تزكية نفوسهم وإصلاح عيوبهم، وأن أهل العلم والفضل يكثر حُسَّادهم ومنتقصوهم من الذين يعجزون عن إدراك مكانتهم العالية ومنزلتهم الرفيعة، ولعل هذا من ابتلاء الله لهم؛ حتى يرفع من قدرهم في الدنيا ودرجتهم يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) رواه الترمذي.

ويقيني أن كثرة الانشغال بانتقاص العلماء والدعاة دليل على خلل في التربية والأدب، وأن تركيز بعض المشايخ على العلم الشرعي دون تحليته بآداب الطلب هو الذي يفرِّخ أمثال هؤلاء الشباب المتعالمين! قال سفيان الثوري رحمه الله: (كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة). وقال الحسين بن إسماعيل (سمعت أبي يقول: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد أكثر من خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت).

إن على هؤلاء المتطاولين على أهل العلم والفضل أن يدركوا مغبة تجاسرهم على العلماء التي هي خصلة من خصال الخوارج، وليعلموا أنهم بذلك يصدُّون الناس عن الدين بالطعن في رموزه من العلماء والدعاة، فالعلماء لا يعاملون كسائر الناس، خاصة إذا كانوا من أهل العلم والفضل، ممن غاصت سيئاتهم في بحر حسناتهم، وإذا كان عِرْض المسلم العادي محرماً وغيبته منهيّاً عنها، فما بالك بالعلماء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (ورثة الأنبياء)، قال ابن عساكر رحمه الله: (لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة)، وقال أيضاً: (ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب)، وقال ابن العثيمين رحمه الله: (إن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم، والذي يعلمونه الناس، فلا يقبل الناس ما يأتون به من العلم، وهذا ضرر على الدين).

كما نناشد الرعاة وولاة الأمر أن يضطلعوا بواجبهم في تأديب هؤلاء المتجاسرين؛ حتى يرتدعوا وينشغلوا بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، بدلاً من تضييع أوقاتهم في الإساءة إلى العلماء الذين هم ذخر الأمة وتاجها ومصدر فخرها وعزِّها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى