شاءت الأقدار أن كنت في مشعر منى صباح العاشر من ذي الحجة ، مطوفاً متجولاً بين مكاتب الخدمة الميدانية لحجاج دول ساحل البحر الأحمر ، للإطمئنان على حسن الخدمات المقدمة لحجاج بيت الله الحرام ، الذين شرفنا الله تعالى بخدمتهم في أطهر البقاع ، مكة المكرمة ، ولقد سمعت خلال تجوالي بالمشعر أصوات الطائرات المروحية وسيارات الإسعافات والطوارئ بجميع فئاتها الخاصة والعامة إضافة إلى سيارات الدفاع المدني التي جاءت مهرعة بمعداتها من كل صوب للمساهمة في الإنقاذ ، وليس بمستغرب على كل هؤلاء وقد إشرأب خلق الإسلام في نفوسهم ، وبعد وصولي إلى المنطقة القريبة من الحدث رأيت ملحمة من الجهود المكثفة لرجال الأمن وفرق أمانة العاصمة والمسئولين الذين تجردوا من مراتبهم المدنية والعسكرية للمساهمة الفعلية في إنقاذ ضيوف الرحمن الذين شاءت إرادة الله وجرى لهم ما تناقلته وسائل التواصل ، ولست هنا مقلباً للأحزان ولكنني أردت وصف ما شد إنتباهي وأنا أتنقل بين المرضى المصابين والمتوفين ممن تدافعوا لإتمام نسكهم برمي الجمرات ، وذلك الجمع يتهافت للدعم والإسناد من المواطنين مطوفين وحجاح ومارة بجميع أعمارهم ، الذين هرعوا من مخيماتهم للمساعدة وبذل التضحيات ، بل حتى الباعة أصحاب المحلات ساهموا أيضاً وبالمجان بتوزيع ما لديهم من مشروبات ومياه باردة ، وهنا تعود بي الذكريات لصاحب متجر أغطية (شراشف) الذي أنفق أغطيته على تلك الجثث المحمولة المارة أمام متجره وقد دعوت الله تعالى له وبصوت مرتفع مشرئب بالبكاء بأن يستره الله ومن يحب في الدنيا والآخرة بستره لتلك الجثث ، قال تعالى في سورة الرحمن :(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ، وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من ستر عورة أخيه المسلم ، ستر الله عورته يوم القيامة) ، وبالعودة لعنوان مقالتي فكم تمنيت أن أكون حاجاً معهم وقد فاح منهم ريح المسك الذي شاع وانتشر في موقع الحدث ، بما يذكرنا بقوله عليه الصلاة والسلام في ذلك الرجل الذي سقط من فوق بعيره فمات وهو محرماً فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يهل أو يلبي) والروايات كثيرة عن الكرامات التي وعد الله بها عباده المؤمنين ، ومما زادني فخراً وتفاخراً بالوطن حكومة وشعباً وقد سُميت بمملكة الإنسانية تلك المواقف وفي مجملها ملحمة التراحم والتعاضد والإنقاذ للمتضررين من كل الأطياف ، إضافة إلى من عاشوا الحدث في حينه من الشعوب الإسلامية التي صرخت حناجرها بالثناء للملكة العربية السعودية وقيادتها الحكيمة التي سخرت كل إمكانياتها المادية والمعنوية لخدمة ضيوف الرحمن ، وليس أدل على ذلك وقوف صاحب السمو الملكي مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل في وقت قياسي لمتابعة الحدث بنفسه وإصدار التوجيهات لجميع الجهات المعنية بالدعم السخي اللامحدود لمعالجة الموقف وإنهاء المشكلة ، بل وتجهيز موقع الحدث والمسارات لإستقبال الحجاج الراغبين بالتوجه لرمي الجمرات في ساعات وأيام التشريق ، بجهود حثيثة من فرق النظافة التابعة لأمانة العاصمة ، ولقد تكاتفت جهود وزارة الحج ومؤسسات الطوافة بالتضامن مع الجهات المعنية بالحرص على تسهيل تفويج الحجاج إلى الجمرات في الفترات التالية لتلافي ذلك التدافع والتكدس من الحجاج المتعجلين وغيرهم ، لنؤكد للجميع بأن المملكة حكومة وشعباً قادرون بمشيئة الله على خدمة الحجيج الذين تجاوزات أعدادهم الملايين في أيام معدودات ، ونحمد الله تعالى أن أتم فضله بسلامة الحجيج ونفرتهم إلى مساكنهم بمكة المكرمة والطواف بالبيت العتيق ، أسأل الله عز وجل أن يجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ، وأن يديم على الأمة الإسلامية عامة وعلى وطننا خاصة الأمن والسلام بقيادة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وسدد على دروب الخير خطاه.
0