إن من أعظم الأشياء التي قامت البشرية بابتكارها هي النقود بديلا عن نظام المقايضة ، فأصبحت النقود معياراً لقيم الأشياء ، وأداء للذمم التي في الأعناق ، وتسهيلاً وضبطاً للمبادلات بين أفراد البشر ، لكن من غير المنطقي أن يتم تبادل النقود في المجتمع البشرية من دون أن تنتقل بواسطتها السلع والخدمات ، لأن السلع والخدمات هي الأصل في اختراع النقود ، وإذا تبادل الناس النقود من دون سلع وخدمات ، أصبحت النقود سلعاً بحد ذاتها ، مع أن الفرق جوهري بين السلع والنقود التي هي في الأصل أثمان للسلع والخدمات ، هو أن السلع ينتفع بها الإنسان مباشرة ؛ كالبيت يسكنه ، والمركبة يركبها ، والطعام يأكله ، وأما الأثمان وهي النقود فلا ينتفع بها مباشرة ، وحينما نعاملها كالسلع فنتاجر بها عندئذ نكون قد وقعنا في خطإ مدمر للمال الذي هو قوام حياتنا ، وعصينا منهج خالقنا العظيم الخبير بأسباب سلامتنا وسعادتنا الذي أراد المال في محكم تنزيله أن يكون متداولاً بين كل البشر وأن يكون ثمناً ندفعه ونقبضه لا سلعة نتاجر بها ، وأراده أن يكون متداولاً بين كل شرائح المجتمع لا موقوفاً على شريحتين صغيرتين حجماً ، هما : الأقوياء والأغنياء .
ولأنه أراده متداولاً بي كل البشر حرم الربا أشد التحريم ؛ لأنه يجّمع الأموال في أيدِ قليلة ، وتحرم منها الكثرة الكثيرة ، وتوعد المتعامل بالربا بحرب من الهِ ورسوله وهو أشد أنواع الوعيد في القرآن الكريم ، قال تعالى : ( [COLOR=green]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [/COLOR]) لذلك يعد محور النظام المالي الإسلامي أن المال قوام الحياة الإنسانية فقال تعالى في قرآنه الكريم ( [COLOR=green]وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً[/COLOR] ) وأن هذا المال الذي فيه قيام حياة الإنسان يجب أن يكون موزعاً ومتداولاً بين كل البشر لا أن يكون ( دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) كما قال تعالى في قرآنه الكريم .
لذلك حرم الله خالق السماوات والأرض في كل الشرائع السماوية في اليهودية والنصرانية والإسلامية الربا وهو في حقيقته أن المال ـ في الربا ـ يلد المال ، بينما في شرائع خالق السماوات والأرض أن الأعمال والخدمات هي التي ينبغي أن تلد المال حصراً ، لأن ربح الأعمال والخدمات يوزع عندئذ على أكبر عدد من الناس ممن لهم صلة مباشرة بهذا المشروع ، أو صلة غير مباشرة كالممولين والموردين ، فمعمل رينو للسيارات في فرنسا ـ مثلاً ـ يستقبل إنتاج مئتين وعشرين معملاً مورداً بضاعته لها ، وحينما تلد الأموال المال ـ كما في الربا ـ تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الكثرة الكثيرة.
واليوم يملك عشرة في المئة من سكان الأرض تسعين بالمئة من ثرواتها ، وهم في دول الشمال ، بينما تسعون في المئة من سكان الأرض يملكون عشرة في المئة من ثرواتها ليس غير ، وهم في دول الجنوب ؛ لذلك تجد بذخاً وترفاً وإسرافاً وتبذيراً في دول الشمال يفوق حد الخيال ، وتجد فقراً وعوزاً ومجاعات وديوناً مرهقة في دول الجنوب يفوق حد الخيال أيضاً ، وهذا هو السبب الحقيقي للإرهاب الذي أقض مضاجع الأقوياء والأغنياء ، وأفسد عليهم عيشهم المترف ، وحياتهم الناعمة .
إذن … خــروج النـقـود ( الأثمان ) عن وظائفها الأساسية كأداة لتبادل السلع والخدمات ، وجعلها محلاً للمتجارة بها كما في الربا الذي حرمته شرائع السماء ولا سيما الشريعة الإسلامية الخاتمة ، ومعناه تعطيل لهذه النقود ، وتضييق للمبادلات الحقيقية في المجتمع ، وما ينتج عن ذلك من نقص الإنتاج ، وتقليل الفاعلية الاقتصادية ، وزيادة البطالة ، وانتشار المعاملات الوهمية غير الحقيقية ، يقول موريس آليه ( [COLOR=crimson]عالم اقتصادي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد [/COLOR]) : إن آلية الائتمان – أي التمويل الربوي – تؤدي بصورة جوهرية إلى خلق وسائل دفع وهمية هي من لا شيء ، ذلك لأن صاحب الوديعة في أي مصرف من المصارف يعتبر وديعته رصيداً نقدياً متاحاً تحت تصرف المصرف ، في حين أن هذا المصرف قد أقرض هذه الوديعة ، ويبقى تعهده بالدفع بلا مقابل حقيقي إن هذه الحقيقة تجسد لنا الأثر البالغ الذي يولده التمويل الربوي على النقود ، لذلك كان للحكمة الاقتصادية من تحريم الربا سعة أفق .
وبعد النظر في مآل التعامل الربوي ، ولا أدل على ذلك من أن الأزمة الاقتصادية المدمرة في أمريكا قد سببت خسارات فلكية تقدر بمئات آلاف الترليونات في معظم بلاد العالم الأمر الذي عده الخبراء الاقتصاديون أكبر أزمة مهلكة ماحقة لنظام الربا في العالم بعد الحرب العالمية الثانية ، ودعا إلى أن يرتفع الصوت عالياً لإحداث نظام عالمي جديد لا يكون التعامل الربوي أساساً له 0
وتسعى كل الأنظمة الاقتصادية إلى تحقيق التوازن الدائم بين الادخار والاستثمار ، كشرط لضمان مستوى معين من الدخل ولتعبئة الموارد النقدية لاستثمارها في الفعاليات الاقتصادية غير الربوية ، ويعتقد الاقتصاديون أن نظام الاستثمار الربوي يضعف الحافز للاستثمار الزراعي والتجاري والصناعي والخدمي ، وهو بلغة الاقتصاد يؤدي إلى انخفاض الاستثمارات المنتجة والتي يقوم ازدهار حياة الناس عليها ، ويدفع تعامل الناس الربوى ذي العائد القليل إلى التقتير وإمساك المال وعدم إنفاقه على شراء المنتجات التي يعرضها المجتمع في الأسواق مما يعرض الاقتصاد لأزمات قصور الاستهلاك ، لأن المال هنا يبقى دولة بين الأغنياء0
من المسلم به أن من مصلحة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وتجارة وصناعة أن يكون المشتركون فيها لهم رغبات وأهداف ومصالح متآلفة متحدة تتجه إلى ترقية هذه الأنشطة ( أي حافز الملكية ) وذلك لايتم إلا باشتراك جميع أطراف النشاط الواحد في اقتسام عائد هذا النشاط من الربح أو الخسارة حتى يتسنى للجميع جلب الربح وتجنب الخسارة ، وهذا مضمون النظام المالي الإسلامي الذي ورد في القرآن الكريم لكن النظام العالمي التقليدي القائم على التمويل الربوي يتيح لأصحاب الأموال أن يستغلوا ثرواتهم في هذه الأنشطة الاقتصادية لا كشركاء في الربح والخسارة وإنما من حيث هم دائنون لهذه الأنشطة حيث يحصلون على الربا من خلال قروضهم دورياً وبشكل منتظم ، وهنا لا يجعل المرابي المقرض مهتماً بربح المشروع أو خسارته ولا بتطوره ورقيه ولا بمستوى الإنتاج أو تحسينه في المشروع ، وهذا بدوره يقلل من الكفاءة الفنية التي تعتمد بالدرجة الأولى على العنصر البشري ، فبدلاً أن يتم التعاون على أساس المشاركة والاهتمام بموضوع المشروع وجدواه وكيفية تظافر الجهود لكي يعمل بطريقة جيدة ، ويكون التفكير بالنسبة للمقرض في كيفية حصوله على العائد الثابت ، ويكون التفكير بالنسبة للمقترض كيفية رد هذا القرض بأي طريقة سواءً ربح المشروع أو خسر .
ولمجرد أن يكون هناك مصرف في بلد ما يؤدي فائدة ، ثابتة ، ومحددة ، ومضمونة ، لمبلغ أودع في هذا المصرف من دون أي جهد يبذله المودع ، ومن دون أن يتحمل المودع أية خسارة ، ومن دون أن يوظف أي إنسان يخفف من مشكلة البطالة ، ومن دون أية مخاطرة أو مغامرة أو مجازفة ، وهي ثمن الربح في التجارة والصناعة والزراعة ، ومن دون أن يدفع أية ضريبة ينتفع بها المواطنون في ذاك البلد ، أي أن المال وحده ـ وهو ثمن وليس سلعة ـ ولد المال ، وعطل الأعمال التي من شأنها أن تلد المال … عندئذٍ لا يغامر أي مستثمر بوضع ماله في مشروع زراعي ، أو تجاري ، أو صناعي ، أو خدمي إلا إذا حقق أرباحاً كبيرة لا تحققها المصارف الربوية أي أن الاستثمار الربوي يسهم في ارتفاع الأسعار ، وانتشار البطالة ، ومع البطالة السرقة والاحتيال ، والانحراف والجريمة ، وتعطيل الزواج ، وانتشار الزنا والرذيلة ، ثم الإرهاب الذي هو بحق رد عفوي على الظلم الاجتماعي ، وحينما ترتفع الأسعار تضيق الشرائح البشرية التي تشتري هذه السلعة الذي ارتفع ثمنها ، عندئذ يظهر الكساد ، ويخسر عدد كبير من الموظفين أعمالهم ، وترتفع نسب العاطلين عن العمل
إن التمويل الربوي الذي يقوم به الجهاز المصرفي اليوم يعني حصول المصرف على أصل الدين زائداً الفوائد الثابتة والمضمونة ، وهي تثبت محاسبياً كديون على الشركة المقترضة ، ولا تتأثر قيمة القرض مضافاً لها الفوائد بالأرباح الناشئة عنها سواءً التشغيلية أو الرأسمالية ، والمنطق هنا يقول أن هذا القرض قد ساهم في الحصول على هذه الأرباح بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا بحد ذاته يعد ظلماً للمصرف ، فبدلاً أن يعطى نصيبه الحقيقي من الناتج الذي ساهم فيه ، يعطى مبلغاً مقطوعاً بغض النظر عن نتيجة المشروع سواءً ربحاً أو خسارة ، وفي حالة الخسارة يكون الظلم على المقترض ، الذي بناءً على علاقة المدين بالدائن سوف يلتزم بسداد القرض مع فوائده ، وفي هذه الحال سوف تكون خسارته خسارتين ، خسارة المشروع والخسارة الناتجة عن إلزامية تسديد الدين ، وفي كلا الحالين ( [COLOR=crimson]الربح والخسارة [/COLOR]) لا تتحقق عدالة التوزيع سواءً للمصرف الربوي أو المقترض .
وقد صدر عن مجلس الشيوخ الفرنسي تقرير يتناول النظام المصرفي الإسلامي الذي يعيش ازدهاراً واضحاً ، وقد أكد هذا التقرير أن النظام المصرفي الإسلامي مربح للجميع مسلمين وغير مسلمين ، ويمكن تطبيقه في جميع البلاد فضلاً عن كونه يلبي حاجات أساسية عند الإنسان لذلك يحث هذا التقرير على فتح مصارف إسلامية في فرنسا ، أو إقامة نظم تشريعية وضريبية على التراب الإفرنسي تراعي قواعد الشريعة الإسلامية في المجال المالي ، ويعني النظام المصرفي الإسلامي بخاصة والنظام المالي بعامة أنه يقوم على احترام خمسة مبادئ ؛ وهي تحريم الربا ، وتحريم بيع الغرر ، وتحريم الميسر ، وتحريم التعامل في الأمور المحرمة شرعاً كالخمر والزنا ، وتقاسم الربح والخسارة ، وتحريم التورق إلا بشروط 0
إن من سمات الموازنات العامة في الدول النامية وبخاصة العربية والإسلامية أنها تقوم على أهرامات هائلة من الديون ، يعتمد بعضها على بعض ، إن المصدر الرئيسي لتمويل العجوزات في الموازنة العامة لهذه الدول هو الاقتراض الخارجي بفائدة ، وهذا بحد ذاته له آثار اقتصادية سيئة على الاقتصاد ، منها انخفاض قيمة العملة للدولة المقترضة بسبب عدم الثقة في العملة المحلية التي ارهقت قوتها الشرائية تلك الديون المدمرة ، ومنها الإذعان لشروط وإملاءات الدول المقرضة القوية والتي تحقق مصالحها المترفة بهذه القروض ، وهذا يمكن إدراكه باستقراء كثير من الحالات الواقعية التي يفرضها صندوق النقد الدولي على بلدان الدول النامية المدينة لصالح الدول الدائنة 0
وخير شاهد على ذلك أن بلداً عربياً خرج من حرب أهلية اضطر إلى أن يقترض مبلغ أربعين مليار دولاراً وهو الآن يقتطع نصف دخله القومي سداداً لفائدة القرض فقط أما القرض وفائدته المركبة فلا يعلم إلا الله متى يسدد 0
يتبين مما تقدم بأن الربا له آثار جسيمة على الاقتصاد تطال كل متغيراته ، وأكبر دليل على صدق ما نذهب إليه هذه الأزمة الاقتصادية التي انطلقت من أمريكا والتي عمت آثارها دول الأرض قاطبة لذلك وجب على البشرية تجنب التعامل الربوي التزاما بالمنقول عن الشرائع السماوية اليهودية والنصرانية والإسلامية بهذا الخصوص ، وإدراكاً للمعقول ، لأن في ذالك درءً لمفاسد كثيرة وجلباً لمصالح واقعية وملموسة 0
[ALIGN=LEFT][COLOR=green]بقلم الدكتور محمد راتب النابلسي[/COLOR][/ALIGN]