المقالات

عـــــدتُ .. وقد ر حـل القـوم!

قضيتُ في رحاب دولة استراليا مرحلةً من العمر جميلة؛ وذلك لحضور برنامج تدريبي في المجال التعليمي، حيث ابتعثتُ له رسمياً من قبل وزارة التعليم العالي آنذاك، وكان ذلك في ظل عهدها الوزاري السابق، وقبيل عودتي إلى أرض الوطن الغالي كتبتُ مقالاً حظي بالقبول والاستحسان ، وفيه قد قلتُ (سأعود) واليوم ها أنا ذا بحمد الله قد (عدتُ) .. نعم عدتُ فكان العود أحمد والإياب أجمل، فقد باشرتُ عملي بوزارة التعليم، وهي في ثوبها الزاهي الجديد، بمسمىً جديد، وبقيادة مسؤولين أجلاء جُدد.

وبعد عودتي من السفر وفي أول يوم من مباشرة العمل رأيتُ أنَّ من واجبي الأدبي أن أبحث في محيط الوزارة عن بعض مسؤوليها السابقين، والذين تركتهم خلفي وهم ينعمون على كراسيهم، بدأتُ أفتش عنهم بين جدران الوزارة، لأُبادلهم السلام وأُجدِّد بهم العهد.. بحثتُ عنهم هنا وهناك، وتجولتُ في أرجاء الوزارة ولساني لا يفتر عن السؤال عنهم، ولكنني لم أجد من يرشدني إلى مكانهم أو يُجيب!.

فقررتُ أن أذهب إلى تلك المكاتب التي كانت مرتبطةً بأسمائهم ومنفردةً بحملها من بين كل الأسماء…قلتُ لعلي أن أجدهم حيث عهدي السابق بهم، غير أن المفاجأة التي أذهلتني هناك أنني لم أجدهم على كراسيهم السابقة والتي كانت دهراً خالصة لهم من دون الناس !! يا للعجب أين فلان وفلان ،أين من كانوا بالأمس ملء السمع والبصر، أين أولئك المشرفون، أين المديرون العامون، أين المستشارون المقرَّبون.. أين تلك الأسماء الرَّنانة التي كانت تأمر وتنهي وتُسمع وتُطاع!  أين القرارات التي خطُّوها، والامتيازات التي نالوها، والاجتماعات التي أداروها، بل وأين تلك الخطط التي حبكوها.. أين ذهب كل ذلك يا تُرى، وماذا عن أولئك الذين كانوا بالأمس هنا! فكانت الإجابة: أنهم قد رحلوا وانتهى معهم كل شيء!  فاستوقفني هذه المشهد، وأخذتُ أسرح بفكري فيه، حتى ساقني ذلك إلى تأمل الكثير من مُتع الدنيا التي لا تدوم، وفي بريقها الذي سرعان ما يزول! نعم هذا هو شأن الدنيا.. أيامها دول، وكراسيها دوَّارة، ودوام الحال فيها من المحال! لذا فإن من الواجب علينا أن نُـدرك هذا المعنى مُبكِّراً، فلا نغتَّر بالأضواء الزائفة، ولا أن نوالي ونعادي من أجل متعها الزائلة، يجب أن  لا نسمح للمناصب أن تُغيِّر من أخلاقنا أو تُزعزع شيئاً من مبادئنا وقيمنا، إن الواجب على كل من تولَّى كرسي المسؤولية أن يؤدي مهامه بكل إخلاص وأمانة.. عليه بالرفق والعدل والنزاهة .. عليه أن يكافح الفساد ويراعي الصالح العام، والمأمول منه أن يفتح قلبه للناس قبل باب مكتبه؛ ليسمع الشكاوى والمطالب، ويسعى بصدقٍ في قضاء الحوائج، يفعل كل ذلك إرضاءً لربه الذي يجب من العبد إتقان العمل، ثم تنفيذاً لتوجيهات القيادة الرشيدة الحازمة ـ أيَّدها الله ـ والتي تحدث المسؤولين دائما بأداء واجبهم تجاه المواطنين بكل تفانٍ ومصداقية من خلال احترافية مهنية عالية لا تعرف المداهنة والفساد، ولا ترضى في العمل بالتباطئ والتقاعس .. وبعد هذا كله فمتى قام المسؤول بواجبه على أتم وجه ثم أتى اليوم الذي يترجَّل فيه عن منصبه، فسيترك خلفه أثراً طيباً لا يمكن للزمان أن يمحوه، وسيظل ذكره الحسن عالقاً في الأذهان ومالئً لكل الأرجاء.. وهنا يقع تساؤلٌ كبير، كم من مسؤولٍ بعد أن ترك مكانه قد جعل له في سماء المجد بصمات، وكم من آخر لم يضع وراءه أثراً، ولم يترك له في المكارم ذكراً ولا ذكرى !! ألا فليعفو الله عمن سلف، ويُسدِّد ويعين مَنْ خلف، ويجعلنا وإياهم وكل موظفٍ ومسؤول ممن أدى أمانته المهنية بالقدر الذي يُبرئ الذمة أمام الله، ثم أمام ولاة الأمر أيَّدهم الله .. إننا لسنا في الحياة بُمخلَّدين، ولا في مواقعنا الوظيفية بدائمين، لذا يجب أن نترك خلفنا آثاراً جميلة طيبة؛ لتظل حاضرة في الأذهان، حتى وإن غبنا وابتعدنا عن العيان.. يجب على كل إنسان  أن ينقش له في سجل التاريخ اسماً طيباً كريماً، ليظل كلما ذُكر في الملأ، أُثني عليه، ودُعي له، وشُكِر.. وهذا من عاجل بشرى المؤمن ، والناس شهداء الله في أرضه ،إنها دعوة من القلب لكل من له قلب أن يُخلِّد له من الآن الذكرى الطيبة،والطيبة فقط، وليحذر تمام الحذر من أن يترتبط اسمه بما يكون عكس ذلك! . 

نعم فمن الآن خلِّد ذكراك بنزاهتك وثباتك، أو بتواضعك ولين جانبك، أو بتعاونك مع الناس وجميل تعاملك، أو بغير ذلك من جميل مناقبك.

أفعل كل ذلك وأنت مخلصٌ لله، ومتجنبٌ لكل مظاهر الرياء والسمعة وبإذن الله بعد أن تمضي وترحل ستظل عند العباد عطر السيرة ، وعند المولى سبحانه محمود السريرة.

إن هذه التجليات العميقة أتتني وأنا أشاهد رحيل بعض الزملاء السابقين والذين لم يدر في خلدهم يوماً أن يكون لغيرهم البقاء ولهم الرحيل!

ولنتذكر أن الله عندما رفع قدر يوسف عليه السلام بعد تلك المحنة العجيبة ثم أظهره على أخوته ورفع منزلته بينهم حتى قالوا له وهم معترفون بفضله{ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا} عندها ختم الله قصتهم العظيمة والمليئة بالدروس الجليلة بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}.

وإنني لأرجو وأطمح أن يكون كل ما ورد في هذا المقال عظةً للجميع ودرساً وعبرة.

وإلى المزيد من الدروس والتجليات القادمة بإذن الله.

 ———————————

المستشار بوكالة وزارة التعليم لشؤون التعليم العالي

والملحق الثقافي في لبنان سابقاً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى