ليس على الإنسان حرج في أين يعيش، أو كيف تتنقل به الحياة من موطن لآخر .. هذه أقدار وحكايات يسردها التاريخ في جبين أم ربيع ذات السبعين ربيعا.. عاشت أم ربيع منذ مولدها في جبل الطور حياة البداوة البسيطة، وتحملت مشاقَّ الحياة كغيرها من بنات جِلدتها.. لم تعرف الرفاهية أو حياة البذخ.
قدم والد الخالة جميلة عواد سلامة الحويطي “أم ربيع” قبيل نحو 80 عاما؛ بحثا عن لقمة العيش مثله مثل بعض أبناء القبائل السعودية، التي هاجرت من الجوع، وشظى العيش، عابرا البحر من مدينة ضباء في أقصى الشمال السعودي إلى جبل الطور في مصر، وهو ينتمي لقبيلة عربية، هي قبيلة الحويطات، ومعه زوجته التي غادرت معه الديار، وفارقت الأهلَ في أرض نجد من قبيلة حرب من أسرة المزيني من القصيم..
لم تجد الخالة جميلة أمامها طريق سوى رعي الغنم، وبيع ما تنتجه لها شويهاتها العشر من حليب وسمن.. كانت ترتحل مع أهلها بين جبال سيناء الشاهقة، وأوديتها العميقة، وكأنها تعيش التيه الذي عاشه اليهود في تلك الأرض، لا تعرف أرضا غيرها، ولا تسمع إلا حكاوي والدها عن أهله في السعودية، وعن ديارهم التي كانت -ولا تزال- تحلم بأن تذهب إليها..
تزوجت الخالة جميلة من قريب لوالدتها من قبيلة حرب، وأنجبت منه خمسه أبناء، وثلاث بنات، وما لبث أن توفي عنها زوجها وترك لها أطفال، تكابد من أجل أن يحيوْا حياة كريمه.. باعت غنماتها، وهدمت بيت الشعر الذي كان يعلو هضبة رملية في صحراء قاحلة، وحزمت شعثها، وأردفت صغارها على بعير ابتاعته من أجل ذلك.
كانت عازمة على تغيير نمط حياتها وحياة أطفالها، تريد لهم مستقبلا وتعليما وحياةً أفضل.. ونزلت من جبال الطور العالية إلى وادي شرم الشيخ على مسافة 120 كلم، حيث الحياة الشبه مدنية.. ألقت بكل أثاثها، وابتنت لأطفالها بيتا عشوائيا من البراميل والزنك وسعف النخل، ساعدها في ذلك بعض من يعرفون زوجها، لكن الخالة أم ربيع لم تجد الزاد لها ولأطفالها وبقيت حائرةً..
حياة البدو قاسية على امرأة ترعى أطفالا لا يملكون شيئا.. كانت تنظر إليهم يلعبون دون مبالاة، أو وجل على مستقبل قادم.. استطاعت الخالة جميلة أن تجد الزاد لأطفالها بعد أن باعت بعض ما تملك من حُلي وخلاخل فضية كانت هي مهرها آنذاك، لكن المال لن يبقى.. ورويدا رويدا استثمرت دُريهمات الحلي الفضية لتشتري عنْزا كانت هي زادها وأطفالها الثمانية.
إصرار أم ربيع قصةٌ بحد ذاتها تستحق أن تكتب بماء الذهب، كانت أول مَن فكّر في استثمار الوقت والعمل على زيادة دخلها؛ لإنشاء أسرة بسيطة.. فصنعت من حبات الخرز حليا وعقودا، وطعمتها بالفن البدوي، ونزلت بها إلى أماكن وجود السياح الأجانب في شرم الشيخ. كانت النتائج مذهلة.. عقد الخرز لا يكلفها سوى بضعة جنيهات مصرية لتبيعها بعشرات الجنيهات. أصبحت الخالة جميلة ذات خبرة، واعتاد السياح الأجانب القادمين إلى شرم الشيخ الشراء منها. تبسط أم ربيع بضاعتها من الرابعة عصرا إلى الثامنة مساء على أحد أرصفة المنطقة السياحة، وتواجه كل يوم صَلافة شرطة السياحة وقسوتهم عليها؛ من أجل أن لا تبيع بتحريض من أصحاب المحلات، الذين يبيعون بضائعها ذاتها ولكن بأسعار خيالية، ويحاول التجار في شرم الشيخ أن يطردوها عن الرصيف وهم يشاهدون تهافت السياح عليها، لكنها تقف شامخة وهي تردد “هذا رزق ربي تمنعوه عني؟”.
الخالة جميلة ربّت أولادها من هذا الباب الذي فتح لها أفقا بسيطة، وزوجت بناتها الثلاث، وابتنت بيتا شعبيا من الأسمنت، وهي تعيش اليوم مستورة الحال على الرغم من الاعتداء اليومي عليها وعلى خرزاتها، التي تتاجر فيهن على قارعة الطريق..
كانت -ولا تزال- أمنية أم ربيع أن تحج.. ذرفت دموعها فرحا حين رأتني وهي تردد “الله على السعودية وأهل السعودية، وطيب حكام السعودية.. هم أهلي، وهم عزوتي، وإن ما عرفوني.. والله إني أحبكم يا وليدي، وأحب ريحتكم، وحلمي أحج.. والله يا وليدي، عجزت أجمع قيمة الحج، ودّي أقابل ربي مكملةً ديني، وقد أفنيت عمري في تربية أبنائي.. أكبرهم ربيع، توفي في حادث، وأصغرهم يونس لا يزال يدرس، والبقية عاطلون لم يجدوا عملا بعد أن ضاقت بهم السبل في بلد يصعب فيه العمل..”.
هذه قصة جذور وشروش سعودية تاهت في صحراء سيناء، وهي حكاية لم ولن تنتهي.
عبدالله عيسى الشريف
شرم الشيخ