التنمية تعني البناء والتعمير، بينما يعني الفساد الهدم والتدمير؛ لذا فلا تنمية مع الفساد، لأنهما ضدان يسيران في خطين متعاكسين! والمعروف أن الهدم أسرع من البناء!
قناعتي أنه ما تخلفت دولة عن ركب الحضارة إلا حين أزكمت رائحة الفساد فيها الأنوف، وتقدَّمت فيها المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ويقيني أن أكثر الدول تخلفاً هي الدول الحائزة على أعلى الدرجات والنسب في شهادة الفساد! وكل “دعوات” التنمية تصبح مُجرَّد “ادعاءات” كاذبة و”وعوداً” حالمة جوفاء ما لم يُقضَ على الفساد الذي ينخر في عظام النماء والنهضة.
وحين سُئل رجب أردوغان عن سر النهضة الشاملة التي انتظمت تركيا في عهده، أجاب إجابة مقتضبة لخَّصت كل شيء: (كل ما فعلته أنني حاربت الفساد)!
التنمية عملية متوازنة تهتم بمصلحة الوطن والمواطنين بشكل عام، وتسعى لتقليل الفوارق وسدِّ مواطن النقص في السلع والخدمات، أما الفساد فهو عملية دافعها الأنانية وحب الذات، فالمفسد لا يرى إلا نفسه، ولا يراعي إلا مصلحته، وهو مستعد لأن يضرب بمصلحة البلاد والعباد عرض الحائط في سبيل أن يحصِّل مصلحته الشخصية.
فهو إن كان مسؤولاً فإنه لن يمرِّر مشروعاً ما لم تكن لديه منفعة شخصية فيه، وربما اشترط على أصحابه أن يحصُل على حصة معينة من المال أو نسبة من الإيرادات مقابل أن يُصَدِّق لهم المشروع ويمنحهم التصريح اللازم للعمل؛ ولا يهمُّه ما يُدخِل في جوفه وجوف أبنائه، أَمِنَ الحلال هو أم من الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لن يدخل الجنة لحم نبت من سحت) رواه الإمام أحمد.
فكم من مشروع أقصاه حين لم يجد فيه منفعته، وكم من مصلحة للبلاد فوَّتها حين لم تشبع جشعه، وكم من مستثمر رده خائباً حين لم يمنحْه ما أراد! فإذا نفَّذ له ما شاء أفسح المجال لمشروعه، ولا يهمه إن كان يتاجر بسلع فاسدة أو يجحف في حقوق الموظفين والعمال! وينسى دعوة المظلومين التي تلاحقه – ولا شك أنها ستدركه يوماً – كأنه لم يقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقِ دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري ومسلم.
التنمية تراعي حقوق الضعفاء والمهمشين والفقراء، فتسعى لاستيعابهم ودعمهم وتحسين أوضاعهم، أما الفساد فلا مكان لديه إلا للأقوياء، ولامجال له إلا للعمالقة! وأكثر من يروح ضحية المفسدين هم الضعفاء الذين لا سند لهم ولا ظهر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ(رواه النسائي، وصححه الألباني.
التنمية لا تحابي أحداً، وليس فيها كبير على القانون، فإذا أحسن المحسن كافأته أياً كان، وإذا أساء المسيء أدَّبته أيا كان، أما الفساد فهو قائم على المحسوبية والمحاباة والمصالح المشتركة، والمفسدون بعضهم أولياء بعض، يُداري بعضهم على بعض، ويستر بعضهم بعضاً، فإذا سرق أحدهم تركوه، وإذا سرق غيرهم طبقوا عليه القانون! متجاهلين حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) رواه البخاري.
المفسد غرَّته الحياة الدنيا، فخدعه ما معه من المال والجاه والقوة، وغرَّه بالله الغَرور، فنسي أن هناك حساباً وجزاءً، وغرَّه الجاه والسلطان فلم يتورع عن معصية الله وظلم عباده، فهو مفسد في الأرض بعد إصلاحها، مخالف لقوله جل وعلا: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56].
وإن كان الله قد أمهل المفسد وتهيأت له أسباب الفساد، فهذا استدراج من الله تعالى وإملاء؛ لقوله عزَّ وجلَّ: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) [الأعراف: 1182]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، قال: ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ متفق عليه.
هذا غير ما يصيبه من فساد الأخلاق والأعمال والأرزاق في نفسه وأهله، هذا غير ما ينتظره في الآخرة من غضب الله وعذابه الأليم، قال السعدي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا): (“وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ” بعمل المعاصي ” بَعْدَ إِصْلَاحِهَا” بالطاعات, فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق”.