وجوب الاستسلام لله في الرحلتين .. رحلة الحج .. ورحلة العمر كله:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد
من هدي مكة للعالمين أن فرض الله تعالى على المسلمين ركن الحج العظيم ، مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا .. كما جعله فرض كفاية على الأمة المسلمة ، تؤديه فئة منهم كل عام، لحاجة البشرية إليه كأعظم مُذكِّر بحقيقة دين الإسلام ، وليكون حج بيت الله تعالى الترجمة القولية والعملية لقوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَم) .. فالاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هي سمة حجاج بيت الله الحرام في رحلة الحج ذات الأيام المعدودات.
ولذا نجد التأكيد يأتي في القرآن الكريم في سورة الحج على ضرورة استسلام المسلمين عموما والحجاج على وجه الخصوص لله تعالى، حيث قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ), كما حذر تعالى المعظمين لحرماته, في نفس السورة ، من الشرك وخطره فقال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .. فلا غرابة إذن أن نجد الحاج في رقابة لله وتقوى ، يسأل عن أحكام نسكه قبل إحرامه ودخوله في النسك, مقبلاً تائباً إلى الله تعالى ، طامعاً أن يعود من حجه كيوم ولدته أمه .
فإذا ما وقع في محظور بعد إحرامه, أخذ يسأل عن الحكم فيما وقع فيه من خطأ ، خوفاً من أن يكون قد تأثر حجه بنقص ، كما تجده يتعامل مع إخوانه المسلمين بأخلاق حسنة ، بعيداً عن الجدال .. قد تذوق حلاوة ذكر الله تعالى ، وأيقن بضعفه وفقره في هذه الدنيا عندما جاء إلى صعيد عرفات ، فأخذ يجهش بالدعاء وبالبكاء .. مخبتا مستسلما لله تعالى كما وصفهم سبحانه في الآية الكريمة في سورة الحج.
هذا كله ليس غريبا ، ولكن الغريب ألّا يكون هذا هو حال المسلم في رحلة العمر كله .
وقد يقول البعض أن وجود ميقات للحاج يوجب عليه بعدها أن يراقب نفسه لئلا يقع في محظورات الإحرام هو الدافع والمحفز لهذه الرقابة واليقظة ، فنقول نعم، ولكن ألم يجعل الإسلام لرحلة الحياة ميقاتاً ، يبدأ عند سن الرشد والتكليف ، وذلك حين يبدأ الملكان يسجلان كل صغيرة وكبيرة من أعمالنا .
وإذا كان الله تعالى قال عن رحلة الحج: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ), فإنه قال عن رحلة الحياة الدنيا ، التي قد تمتد عند البعض إلى الستين أو السبعين من العمر، أو أقل من ذلك أو أكثر: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .. بل إن رحلة الحياة الدنيا ، التي يشوبها كثير من المنغصات والشهوات والشبهات, أحوج أن يتذكر المسلم فيها حقيقة دينه ، من رحلة الحج ؛ ففي الحج يعيش الحاج حياة الاستسلام لله تعالى لحظة بلحظة ،حيث فرّغ نفسه لأعمال نسكه التي ما جُعِلت إلا لذكر الله تعالى ، يشاركه في ذلك كل ما حوله من الحجاج بجوار البيت العتيق ، ومواطن عمرت بالوحي والتنزيل ، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح ، يلبي معه حتى الحجر والشجر. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا) ..
وفي لفتة تأمل في حياة الصحابة رضوان الله عليهم ، نجد أنّهم كما كانوا يسألون عن صحة أداء نسكهم – كسؤال بعضهم (حلقت قبل أن أنحر) فيجيبه صلى الله عليه وسلم: (لا حرج)- فإنهم كذلك كانوا يسألون عن أمور دينهم التي شملت حياتهم كلها، في كل وقت ، وليس عند تلبسهم بالإحرام في الحج أو العمرة فقط وذلك لرسوخ حقيقة الإسلام في قلوبهم ، استسلاماً لله بالتوحيد وانقياداً له بالطاعة وبراءةً من الشرك وأهله ، من مثل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ), وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ), وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى), وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ), وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ), وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا), وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ), وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ), وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ), وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) ..
ولأن البشرية بحاجة إلى استمرار تذكيرهم وتعريفهم بربهم ودعوتهم إلى توحيده, فكان من رحمة الله تعالى على الناس أن فرض عليهم هذا الركن العظيم ، قال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فرض كفاية على المسلمين في كل عام ، بل جعل انقطاعه مؤذن بقيام الساعة ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يُحج البيت), وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ” لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض” ..
تتجلى في هذا المحفل الكبير حقيقة الاستسلام لله تعالى في أجمل وأقوى صوره, من خلال رحلة يؤدي المسلمون فيها مناسك الحج ، قاصدين البيت الحرام ، قد قدّموا محبة الله تعالى على جميع محبوباتهم من أهل ومال وولد وبلد ..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.