بيت المولد النبوي الشريف بمكة المشرفة، الواقع بشرقي المسجد الحرام بسوق الليل، هو بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تشرف بولادته -صلى الله عليه وسلم- فيه، وكان هذا البيت ملكًا من أملاك جد النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد المطلب بن هاشم سيد مكة وحاكمها. وكان ذلك مسكنه وبيته، وكانت رباع بنى هاشم في واجهة الكعبة المشرفة. وفي هذه الدار تزوج عبد الله والد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السيدة آمنة بنت وهب فحملت به فيه، وفيه ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاش فيه مع عمه أبو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب حتى خرج منه إلى دار سيدتنا خديجة -رضى الله عنها- حينما تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة. فكان أبو طالب يسكن فيه طوال حياته، وبعد وفاته ورثه عقيل بن أبي طالب وأخوه طالب، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة كان البيت المذكور بيد عقيل بن أبي طالب. ويذكر أن عقيل بن أبي طالب قام ببيعه بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، وقيل باعه بعض أولاد عقيل من بعده حتى أصبح ملكًا لمحمد بن يوسف أخى الحجاج بن يوسف الذى كان واليًا للبلد الحرام سنة 74 للهجرة .. وفى ذلك قال الإمام الأزرقي في تاريخه “أخبار مكة” وهو من علماء مكة في القرن الثالث الهجرى تقريبًا، ما نصه : مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو في دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف (أي داخل فيها) وكان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه وفي غيره يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، حينما قيل له: أين ننزل يا رسول الله ؟ وهل ترك لنا عقيل من ظل ؟ فلم يزل بيده (أي بيت المولد) وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد بن يوسف، فأدخله (أي ضمه) في داره التي يُقال لها البيضاء، وتعرف اليوم بابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار، حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون، فجعلته مسجدًا يصلى فيه، وأخرجته من الدار (أي من دار محمد بن يوسف) وأشرعته (أي جعلت له شارعا) في الزقاق الذي في أصل تلك الدار، يقال له : زقاق المولد. ثم قال الإمام الأزرقي: حدثنا أبو الوليد قال: سمعت جدي، ويوسف بن محمد، يثبتان أمر المولد، وأنه ذلك البيت، لا اختلاف فيه عند أهل مكة انتهى . . هذا ولم يزل بيت المولد النبوي الشريف مسجدًا وبيتًا من بيوت الله، تصلى فيه الصلوات الخمس منذ أوقفته السيدة الخيزران أم الرشيد -رحمة الله عليها- وبنته مسجدًا بعد أن اشترته بمالها الخاص، وظل معروفًا ومشهورًا بمكة بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه العلّامة الرحالة الشيخ محمد بن جبير -رحمه الله تعالى- أثناء رحلته المشهورة إلى مكة المشرفة سنة 587 للهجرة الشريفة، وشاهده وهو مسجد، فقال : ومن مشاهدها الكريمة أي مكة : مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتربة الطاهرة التي هي أول تربة مست جسمه الظاهر، بني عليها مسجد لم يرَ أحفل بناء منه (أي أجمل بناء منه) والموضع المقدس الذي سقط فيه -صلى الله عليه وسلم- ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين، وهو محفوف بالفضة، فيا لها تربة شرفها الله، بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام، ومولد خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-. ويفتح هذا الموضع المبارك، فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه؛ لأنه كان شهر مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي اليوم المذكور، ولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها. وهو يوم مشهود بمكة دائمًا انتهى .. وفي رحلته : أخبر ابن جبير أيضًا عن دخوله لهذه الدار المباركة، فقال : وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه، دخلنا مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهو مسجد حفيل البنيان، وكان دارًا لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي، صفته : صهريج صغير، سعته ثلاثة أشبار، وفي وسطه رخامة خضراء، سعتها ثلث شبر مطوقة بالفضة، فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرًا، ومسحنا الخدود في تلك الموضع المقدس، الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض، وممس لأطهر سلالة وأشرفها -صلى الله عليه وسلم-، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبإزائه محراب حفيل القرنصة، مرسومة طرته بالذهب انتهى كلام الشيخ ابن جبير. وقال العلامة المكى ومؤرخها الشيخ جمال الدين محمد جار الله ابن ظهيرة القرشى المخزومي في تاريخه “الجامع اللطيف”، في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف، وهو من علماء القرن العاشر الهجري: أما المواليد أي بمكة: أجلها مولد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو بمكة في المكان المعروف بسوق لليل، مشهور بمولد النبى -صلى الله عليه وسلم-، ولم يزل حتى حجت أم الخليفيتن الخيزران فأخرجته أي من دار محمد بن يوسف الثفقي وهو أخو الحجاج، فجعلته مسجدًا يصلى فيه، وكون هذا المكان مولده -صلى الله عليه وسلم- مشهورًا متواترًا، يأثره الخلف عن السلف ثم قال : ومن فضائل هذا المحل المبارك ما نقله الأزرقي عمن كان ساكنًا به قبل أن تخرجه الخيزران، أن قال : والله لم تصبنا جائحة ولا حاجة حتى خرجنا منه، فاشتد علينا الزمان انتهى. ثم تابع موردًا بعض الأقاويل الشاذة التى تناقلها بعض المؤرخين عن موضع ولادة النبى -صلى الله عليه وسلم-، فقال : والمعروف المشهور في مولده عليه السلام هو الأول الذى بسوق الليل، ولا اختلاف فيه عند أهل مكة انتهى .. وبناء على ما سبق من أقوال فحول العلماء والمؤرخين المكيين وغيرهم في مختلف العصور: فإن السيدة الكريمة الخيزران أم أمير المؤمنين هارون الرشيد قد اشترت هذه الدار عام 171 للهجرة الشريفة من ورثة محمد بن يوسف الثقفي، ثم جعلتها وقفًا للمسلمين، وبنت على موضعها مسجدًا حسن البنيان رائع الأركان فلم يزل كذلك حتى العصور المتأخرة. ولا أدرى ما هى مسوغات تحويله إلى مكتبة وهو مسجد. ومن المغالطات والمعلومات المتداولة بين بعض الناس، أنه أصبح من أملاك عباس قطان رئيس بلدية مكة سابقًا، وهى معلومة خاطئة جدا … والصواب : أن بيت المولد النبوي الشريف وقف ومسجد، وبيت من بيوت الله تعالى منذ أن أوقفته السيدة الخيزران وبنته مسجدًا من قبل ألف وثلاثمائة سنة ثم لم يعد ملكًا لأحد، ناهيك أنه بقعة شريفة طاهرة، تشرفت بولادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها. ومن الواجب صيانته وعمارته، وأن يحترم ويطهر، ويبقى رمزًا ماديًا من رموز التاريخ الإسلامى والسيرة النبوية المطهرة. والله الهادي إلى سواء السبيل. بقلم : السيد ضياء محمد عطار باحث وكاتب في تاريخ الحرمين الشريفين عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية
—————————–
باحث وكاتب في تاريخ الحرمين الشريفين
عضو رابطة الادب الاسلامى العالمية