عرفت علي الدميني كاسم شعري من أبناء منطقة الباحة المهاجرين عنها من خلال ما أقرأه هنا وهناك من إشارات شاردة تصنفه على أنه شاعر حداثي … ومنحني الفيس بوك فرصة أن أتعامل معه كصديق افتراضي – وإن كان مقلًا في التحليق في هذا الفضاء. وشاءت بعد ذلك الصدف أن قرأت له الخبت (القصيدة ) التي سماها بهذا الاسم … ويقينًا أنها كانت مصافحة أولى أنبأت بعلي الدميني، ثم عرفت من أصدقاء كُثُر أنه كان من الأوفياء لعبدالعزيز مشري -يرحمه الله- واكتشفت مع مرور الوقت أنه لما يزل مقيمًا في صداقة المشري بدليل أنني بمجرد أن ذكرت له في رسالة خاصة في الفيس بوك أنني أتمنى أن أقرأ للمشري، وإذا به بعد شهر وعلى هامش ((تكريمه في مهرجان الشعر بالباحة)) يبادر بالسؤال عني بالاسم عن طريق الصديقين مسفر العدواني ومحمد فرج كونه أخذ طلبي مأخذ الجد .. لكي يخصني بنتاج المشري كاملًا حرصًا منه على أن يقرأ الجميع تجربة هذا الرائد .. وقد كان بإمكانه أن يتجاهل طلبي القديم خصوصًا وأنه لم يسبق لي أن ألتقيت هذا الطيب النبيل .. ومازال هذا الموقف يمثل لي الكثير من المعاني التي قلما نجدها في كثير من أدبائنا اليوم … ولو أنه نسي طلبي لما كان لي عليه من عتب مني … لكنه نبيل مملوء بالوفاء والبساطة …
وقد أتاح لي مهرجان الشعر بالباحة أن أكون على تماس مع نتاجه وكتبه ودوواينه التي مازلت أقضي كثير من الوقت، وكثير من التأمل، والكثير من التجول بين أوقاتها لكي أعيش تجربة الدميني المثيرة والمثرية، وهنا لا أدعي أنني أستطيع مقاربة تجربته الثرية لكني أسجل انطباعًا شخصيًا عن تجربة تحتاج الكثير من التعمق، وامتلاك الكثير من الأدوات التي أعترف أني لازلت أفتقرها؛ لكي أحيط بتجربة عميقة وممتدة وحقيقية كتجربة الدميني، لكني متيقن بل وأراهن على أنه من بعد أن تقرأ الدميني شاعرًا وساردًا؛ فإنك ستجد نفسك أمام محصول أدبي وافر، وأنك ستخرج بعده مثقلًا بالمعرفة ومتشبعًا بالذوق. فمن يقرأ القصائد، التي فاضت بها تجربة هذا الشاعر، حتمًا لن يخرج كما دخل. وسيكون هناك تعالق من نوع ما مع ماقرأته مما يعني (إصابتك بالدميني) حيث لن تخرج بعد قرائته سليمًا معافًا، بمعنى أنه سيكون هناك تغيّر، من نوع ما ولو لوقت معين، هذا التأثير الذي تحدثه قراءة علي الدميني تشبه تمامًا تأثير الموسيقى، ولربما الفلسفة، وقد تتلبسك حالة شعورية تشبه حالة الدهشة من شيء جديد وغريب تراه للوهلة الأولى. الدميني بعد قرائته، يفعل هذه الأشياء مجتمعة يمنحك فرصة قراءة شكل غير مألوف .. شيء يحمل طابع الجدة يجعلك تستسلم لإغراءاته السردية وحبائل شعره المختلف أقول هذا بيقين وسأدلل على ذلك في ثنايا المقال .. وجدت بالقراءة في نتاج هذا الدميني أنه مزيج من فنون وعوالم ومدارس ومناهج شتى تجتمع في شخص علي الدميني حتمًا وأقولها بثقة هو أحد القلائل القادرين على ابتكار حيل تُعيد الحياة إلى عبارات خرجت من قيد التداول اللغوي أو الأدبي أو أوشكت على أن تصبح بعيدًا عن لغة التداول اليومي، وهذا الافتراض الذي أحسب أنه ملمحًا في تجربة الدميني سأدلل على صدقيته بما ورد في نص (ذاكرة القرى)الذي كان أول مصافحة لي مع الدميني كشاعر فوجدته يصدح بلغة مختلفة وإيقاع مغموس في التراث قائلًا: إبدع القاف والمحراف، واكتب على ما ينحِّل له من جبال الجنوب ومن سحابٍ نلمه بإصبعين يا صديقي على جرح الكتابة ودم ماي نحله قد كتبت القرى جنة وحبك لها ينصب العين ثم يفاجئني كما فاجأ نصه دون سابق إنذار بالفصحى على حين غرة من نص عامي من شعر العرضة، وفي لحظة مخاتلة جريئة ولذيذة تعبر عن صانع ماهر وعازف يجيد الدوزنة على أقتاب الحرف وكما يليق بفنان حقيقي فيقول : مثلما سيطل الغريب على (محضرة) سيطل ابن مشري على نفسه في البيوت التي نبتت من عروق الجبال وسيسألها عن فتى ذاهب لحقول البدايات حيث تسيل الطفولة فوق عيون الحصى وفي الوقت الذي تذهب معه باتجاه لذة نص تفعيلي بامتياز، وتطمئن له قصيدة التفعيلة لكنه مايلبث أن يداهمها بانعطافة سلسلة نحو العامي عبر مقطوعة لذيذة (يا شريكي على ما ينَّحا لك، وما ينحى يلي) نعشق الشمس وسط البحر وإن كان مايه حايلي وهكذا تصبح مع الدميني في رحلة ممتدة كمن يركب الأرجوحة التي تغذي فيك شعورًا مستطابًا ..تأخذك نحوه عوالم من الدهشة والفنتازيا واللذة . اقتحام الدميني بهذا النص القروي إيقاعًا ولغة .. نصًا فصيحًا كتجربة غير شائعة ولاتمثل ممارسة سائدة حتمًا يخلق داخلك كمتلقٍ وكمتابع شعورًا جادًا بأن الدميني منفتح على فضاءات وعوالم غير تقليدية، ويملك أدوات متعددة تمكنه من ابتداع هذا التوجهات أو حتى ممارستها بتمكن دون حدوث ارتباك ظاهر يجعلك تنفر من التجربة أو لا تستسيغ هذا التجريب . وهو بهكذا توجه خلق حالة شعرية وشعورية مختلفة تؤكد أنه هضم التراث، وأفاد منه في خلق تجربة دالة على إبداعه المتفرد والمتلاحق عند ممارسة فعل الكتابة الواعي التي يجيد تشكيل نواتجها بأزميل لايكف عن الحفر والنحت بحثًا عن أرض بكر .. لايلبث أن يغادرها ميممًا نحو عوالم جديدة .. يقينًا أن الدميني صاحب خط متفرد في هذا المجال ويعد أحد القلائل الذين تعاملوا مع التراث بطريقة لافتة؛ حيث جعلوا منه مدماكًا لتجربة مستحدثة وطريقة مبتكرة لتجربة ورؤيا فهو لم يبقَ أسيرًا للتراث مرتهنًا له ولا هو نفاه وأقصاه من تجربته وتنكر له … وبهذا المزج تشكل مختبر الدميني السردي الذي صنع حالة خاصة وتجربة منفردة عُرف بها الدميني فيما بعد، وشكلت ملامح وجهه الهادﺉ وصبغت تجربته بهذا الأسلوب. لا أعرف ما هو سر ((محضرة )) مأوى المبدعين ؟؟.. التي لاتكف عن إنتاجهم كما تنتج أكواز الذرة تباعًا في مجالات شتى .. لكن الذي أعرفه أن لنشأة الدميني المولود بين القرى المتناثرة في باحة البهاء والحسن دورًا في هذا التشكل، والمؤكد أنه قد ورث عنها وعن بيوتها وقراها العلاقة مع التراث كما ورث أبناء الجنوب عامة علاقاتهم مع الطبيعة، مع الجبال، مع الغيم مع الصباحات .. والأفق البعيد وهم يطيلون النظر نحو التهم والخبوت بفضاءاتها الرحبة ….
ثم جاء الرحيل والهجرة ممزوجًا بترديد الأغاني اللذيذة والأخرى ذات الأصوات العميقة الجارحة كعواء الذئاب مبما يحمله الارتحال من معاني الغربة والبعد والأنين .. وبما تلقيه في خلد الإنسان وروعه من هواجس، وماتشكله من اغتراب موجع ينعكس على شخصية الإنسان وتكوينه، ومتى كان هذا المخلوق مبدعًا صبغته بمعنى آخر وشكلته بتشكيل جديد يظهر في نتاجاته دليلي الآخر على تفرد الدميني هو أنه كان متجليًا ومدهشًا ولذيذًا وعميقًا ومجربًا وصاحب مدرسة في الكتابة السردية عندما صافحني ساردًا في الغيمة الرصاصية؛ حيث خلق من أبطالها عوالم لا مألوفة ولا متناهية .. مسكونة بالدهشة ممتلئة بمعاني الإبداع .. ومحرضة على التجريب؛ حيث بدت هذه الرواية(( كمحترف كتابة ومختبر سردي ناضج مكتمل ))فعزة تغادر الرواية لتفاجئه في غرفة نومه في لحظة مربكة له كراوٍ، ولنا كقراء وسهل الجبلي ومسعود الهمداني وبقية أبطاله خلقت نصًا انطلق فيه بنا إلى جوانب واقعية وعبثية وفانتازية وأسطورية في آن واحد، و نجح في أن يجعل اللامعقول فيه معقولًا، خلق القرى والأرض وبنى البيوت والمحلات وجلب الساكنين بحذر شديد، ووزعهم كل بما يريد من مساحة، الفكرة كانت مبتكرة واعتمد على اللغة في بناء هيكل العمل، والحالة السياسية لم تكن غائبة، يخرج بعض أبطاله ليطالبون بدية من قتلهم الراوي في روايته فيما يتم اختطاف الراوي في لحظة ما من حياة السرد؛ ليذهب إلى وادي الينابيع وهناك تتوالد عوالم آخرى من السرد والدهشة والجمال واللذة التي تخلفها القراءة . لتجد في هذه الرواية العميقة التي- في ظني – لم تقرأ نقديًا بالشكل الذي تستحقه كونها كونت مختبرًا سرديًا وقلعة مملوءة بحلول كتابية وتجارب مستمدة من حقول آخرى كالمسرح داخل المسرح .. وتقاطعات مع ((فرانكشتاين )) في أسطرة الواقع بمغادرة الشخوص من النصوص إلى الواقع .. وهذه العوالم لايتم خلقها بسهولة إلا عبر أديب يقف في مكان عالٍ … ليصنع مدائن الدهشة واللذة .. ثم يقدمها مستطابة كقطعة خبز طازجة …. وهذا يجعلني أكرر ماقيل بأن ـوظيفة الأدب، ليست الإقناع، بل التشويش. لا تشويش بلا تجديد وابتكار. والابتكار كلما كان غريبًا، زادت لا مألوفيته، وخلق تشويشًا جميلًا. الأدب لا يخاطب القناعات، لا يقيّد بالأحاسيس، لا يقاس بالعقل، لأنه فلسفة من نوع آخر، فلسفة التمتع بالمبهم الجميل. كل وضوح فناء. وهكذا كان الدميني في (الغيمة الرصاصية )، بل في كثير من نتاجه الأدبي ملهمًا فيلسوفًا متفردًا … ينفث سحرًا حديثًا …
لذا كان تكريمه غير مرة بجائزة الثبيتي أولاً ثم على هامش مهرجان الشعر بنادي الباحة الأدبي، وأخيرًا عبر نادي المنطقة الشرقية بمقر صحيفة اليوم. كل هذا لايشكل سوى اعتراف بإبداع الدميني الذي أظنه مايزال لم يُقرأ كما ينبغي، وأجد أنه قليل من الإنصاف أن نقول عنه أنه مدرسة أدبية ومحصول معرفي وافر وإنسان متسامٍ حد البساطة والهدوء الآسر والفتنة المقروءة الدميني يجعلنا نؤمن أن الأدب جمال لامتناه .. ولذة ممتدة .
——————–
بمناسبة تكريمه من قبل نادي المنطقة الشرقية الأدبي بمقر صحيفة اليوم مؤخرًا.