في دورة الحياة ونمو الشعوب المطرد، وفي غفلة من ساعة الزمن، يظهر جيل جديد واعد يختلف عن الأجيال القديمة في كل شيء؛ في تكوينه وتصوره وفكره وثقافته. إنه جيل التقنيات الحديثة؛ هذا الجيل لم يعد يركن إلى الماضي، ولم يدهشه الحاضر، ولكنه يتطلع إلى مستقبل أشبه بحلم جميل وأمنيات بعيدة المنال، ومع هذا فهو يعمل بكل جد واجتهاد كي يحقق أحلامه ولو كانت مستحيلة. ومن ملامح هذا الجيل الحماس والاندفاع وعدم اليأس. هذا الجيل الجديد المتطلع إلى السماء، الذي لا يعرف ثقافة الثابت، ولا يعترف بمجرد التحول، بل يطمح في بناء جديد يختلف عن الأبنية الثقافية القديمة كافة، بناء تقني مفعم بالحركة والضوء والسرعة والتغير الآني، جيل المعلومة السريعة التي تصل في أقل من ثانية إلى أبعد نقطة في جغرافية العالم؛ فقد أصبح الفرد محاطًا بتقنيات مختلفة، هي في نفسها تشكل ملامح الجيل الذي هو أشبه بعالم افتراضي، ولكنه بدأ منذ مدة يتشكل ويؤثر فينا من حيث لا نشعر. هذا الجيل الجديد -بكل تطلعاته وأحلامه وآماله- يشعر بالغربة في عالم متخلف، وفي بيئة متناقضة لا تعرف إلا ثقافة القتل والتنمر والكبت وانتهاك الآخر وتعرية الخصوصيات. وتزداد غربته كلما شعر بأن تلك البيئة بعيدة عنه لا تفهم رسائله التي بعثها -عبر “إيميل” مجهول، ومن خلال لوح تقني في حجم الكف- إلى أصقاع العالم. إن جيل الصراخ المكتوم الذي بدأ يعبر عن نفسه في ثلاثين ثانية، من خلال برنامج صغير مصور، يظهر فيه مرة ضاحكًا، ومرة باكيًا، ومرة متناقضًا، ومرة ناقدًا لبيئة الظلم والاستبداد؛ لهو في حاجة إلى دراسة متأنية، وعناية كبيرة، في ظل الأحداث العالمية الكبيرة التي قد تشغلنا عنه، وتمنعنا من الاهتمام به. وتتعدد وجوه الجيل الجديد وتتنوع رؤاه عبر التقنية الحديثة؛ فتراه مرة ثائرًا، ومرة حائرًا، ومرة متقلبًا، ومرة كافرًا بكل القيم والمثل، تظهر لديه أفكار جديدة تميل إلى الإلحاد تارة، وإلى الإيمان تارات أخرى، وإلى الحيرة والشك في أحيانٍ كثيرة، يكاد الجيل الجديد نفسه لا يعرف: ماذا يريد؟ وإلى أين يتجه؟ فهو يشعر بعدم الاستقرار والاضطراب والقلق، في عالم مليء بالأضواء والتقلب والأخبار المعتمة، في طريق أشبه بنفق مظلم لا يهتدي السائر فيه إلى شيء محدد. إن على المهتمين بشأن الأجيال الجديدة الشابة أن يعترفوا أولاً بهذا الكيان الجديد، ويمنحوه الفرصة والثقة كي يعبر عن رؤاه وعن نفسه وتطلعاته بكل حرية، دون حجر أو تضييق أو ممانعة، مهما كانت أفكاره التي يعتنقها وقيمه التي يؤمن بها، ثم عليهم بعد ذلك أن يدرسوا هذه الظاهرة بشكل عملي ودراسات مستفيضة؛ ليأخذوا بيد هذا الجيل الحائر إلى بر الأمان والسكون والطمأنينة. وفي ضوضاء الحياة التقنية الجديدة وتطوراتها المختلفة واختلاف تأثيراتها على المجتمع؛ يبرز هذا الجيل بخصائص جديدة تحتاج إلى دراسة، وبمفاهيم مختلفة حَرِيَّة بالعناية والرعاية والتوجيه، وفي زحمة الحياة وتبعاتها المختلفة يظهر هذا الجيل، ويتشكل في غفلة عن كل ما حوله من ضوضاء الحياة، كل ذلك أمام شاشة صغيرة قد تكون أصغر من كل الأفكار الكبيرة، ولكنها تحمل كل الأفكار والملامح والأحلام والأمنيات وأسرار الجيل المختلفة، في صفحة واحدة لا تزيد على أسطر معدودة، مصفوفة في ملف صغير، في زاوية من زوايا مكتب العالَم الكبير، على مكتب صغير، لشاب ذكي يجلس على طاولة صغيرة خلف لوح صغير، ومن مكانه هو يرسم معالم المستقبل، وملامح جيل جديد ناهض قوي مؤثر، لا يعرف معنًى لوقفة تأمل أو دراسة؛ فكل شي أمامه جاهز، فبضغطة زر واحدة يبعث آلاف الأفكار والرؤى والمعلومات التي تعبر عما يدور في خلده من خواطر وتطلعات. وفي فوضى الحياة التقنية يشعر الجيل الجديد أنه محاصر بنظم قديمة وعقيمة، تحاول يائسة أن تحد من انتشار فكرته ورؤيته الجديدة، وهيهات! ليس هناك مجال لكبت مشاعره وأحاسيسه، أو تقييد لأنامله التي ترسل بسرعة البرق كل ما يريده إلى أقصى قرية في أقصى زاوية في العالم. لم تعد سياسة تكميم الأفواه تجدي مع الجيل الجديد، ولا فلسفة الممنوع، ولا مبدأ الخطأ والصواب، بل يجدي معه الحجة بالحجة، والفكر بالفكر، والمعلومة بالمعلومة. فلابد من احتواء هذا الجيل، ودراسة هذه الظاهرة التي هي دائرة في دوائر كثيرة، كدوائر ماء ألقيت فيها حصاة، فخرجت دوائر كثيرة ومثيرة، لا تقبل الانحسار أو الذوبان. ولابد أن يُعنَى المختصون بدراسة تاريخ الأجيال والمجتمعات، وأن يبذلوا جهودًا كبيرة، وبوسائل حديثة، لا تعتمد فقط على مجرد دراسة عقيمة، بل ترتكز على الجيل نفسه، من خلال تفهمه والحوار معه، ومحاولة إقناعه بما يصح وما لا يصح، وبما ينفع وما يضر، وما يقبل وما لا يقبل، في عالم حر جريء لا يعترف بالقيم ولا بالأخلاق ولا بخصوصيات الفرد ولا بثقافات الآخر؛ إذ أصبح كل شيء مفتوحًا ومتاحًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وفي دهشة التقنيات وتوسعها وتطورها المستمر أصبح الجيل مشدوهًا مشدودًا نحوها، دون تمييز بين الخير والشر، والخطأ والصواب، ويغلب عليه التقليد بدون تمييز، وهو ما يجب على المعْنِيِّين بأمر الجيل أن يبذلوا في سبيله كل غالٍ ونفيس، نحو وعي حضاري، حتى لا تضيع جهود الأجيال الجديدة التي تشكلت عبر تقنيات حديثة، وحتى لا تذهب سدًى في عالم لا يؤمن إلا بالمتغير، ولا يعترف بقيود أو حدود. ومن هنا فلابد من دراسة هذا الجيل، وفتح آفاق المعرفة أمامه، وتسهيل كل العقبات أمام تطلعاته نحو الوجهة السليمة التي تساهم في بناء الأوطان، وبناء الفكر بعيدًا عن الانحراف والتطرف أو الانحلال والتخلف، وفي إطار القيم والأخلاق والمثل الجميلة الواعية التي تتخذ من الاعتدال منهجًا وطريقًا. ولابد أن يشعر الجيل الجديد أنه هو من يبني ويساهم في التغيير، ويعيد تشكيل المجتمعات ورسم الحياة، بوعي حضاري جديد. عندها نكون قد استفدنا من تجارب الأجيال الجديدة، ولم نقف حجر عثرة ضد طموحها وما ترغب فيه، من بناء جديد في عالم متغير.
0