#
هكذا هم الأموات عندما يخرجون إلى الظلال ليرتاحوا يقفون في انتظار حرياتهم التي فقدوها، لعلها تسير معهم إلى القبور الصغيرة ولكنها تتوه فيذهبون إلى قبورهم كما لو كانوا سجناء . محمد الماغوط مثل هؤلاء الأموات .. قروي متناثر كالرماد، مغمس بالحزن كلقمة صغيرة في فم جائع أربكه الضياع .. ظل طويلا يهرب من منفى إلى آخر، ومن حزن إلى شقاء، وكأنه على موعد أبدي مع أوجاعه التي زرعت مخالبها بين لحمه وعظامه. لم تكن طفولته كغيره من أطفال قريته الصغيرة (سليمة) التابعة لريف حماة الجميل .. بل كانت عبارة عن جرعات متقطعة من الموت يشربها ببطء كل صباح، وهو يقطع المسافات البعيدة ليصل إلى مزرعة كان يعمل فيها أجيرا وهو في السابعة من عمره . طفولة ثقيلة لم يحتملها قلبه الذي كان معلقا بالحرية وبلون الفضاء الواسع فقرر البحث عن ثقب صغير يُخرجه إلى الطرف الآخر من نفق الويلات والقسوة والبؤس . تمرد على كل شيء، على سطوة والده الفلاح، على الازدراء في نظرات الفاسدين والمتسلطين، وشق رداءه الضيق وأطلق للريح عمره. كان دائم البحث عن قيمة الإنسان التي لم يجدها، عن الوجه الآخر لهذه الحياة المصابة بداء الوحشية . الماغوط لم يرسم طريقا مستقيما ليسلكه، ولكنه وجد نفسه مرغما يعبر طرقا متعرجة ووعرة من أجل أن يملأ رئتيه بهواء الحرية النظيف، الحرية التي قال عنها يوما : لو كانت ثلجا لنمت في العراء . هذا القروي المتمرد والذي تفوح منه رائحة الطين والبساتين لم يكمل تعليمه .. لم يقرأ كتب المدرسة .. ولكنه ظل يبحث عن أسرار المعرفة .. شغوفا بالتغير. وهذا ما حصل له عندما التقى صدفة صديقه (سليمان عواد). هذه الصدفة خلقت منه شخصا آخر .. ربما لأنها وضعته على أول طريق هو يريده، فكان “عواد” بمثابة المعلم الأول والذي أرشده لعالم الشعر العظيم. ذلك الشاب المتشرد والثائر لم يتوقف عن الركض، وكأنه مطارد .. ظل في ترقب وقلق من شيء مجهول يتربص به. عاش لحظات مؤلمة في السجن، وفي كل مرة كان يحدث نفسه أنها المرة الأخيرة التي سيشاهد فيها الشمس والطرقات ويشم الأزهار البرية في فصل الربيع . كان يحاول كتابة لحظاته مع العتمة .. يدون أيام عمره فوق قطع من الأوراق الصغيرة لتبقى شاهدة على أنه كان هنا. هذه المحاولات صقلته أدبيًّا من حيث لا يشعر، فكانت انطلاقته كشاعر . في سجن “المزة” كتب كثيرا وهو في حبسه الانفرادي .. كان يستعيض بالكتابة عن الشمس والهواء وكأنه عصفور يدخل منقاره في فتحة صغيرة بحثا عن فتات يبقيه على قيد الحياة. وهناك تعرف على صديقه “أدونيس” الذي أمسك بيده فيما بعد وقدمه إلى واجهة الشعر والرفاق والصحافة. أربك الجميع بموهبته فتصدر المشهد .. إلا أنه لم يخلع قميصه القديم ولم تلهه الأضواء عن انتفاضته وحربه في سبيل الإنسان والحياة . جرب الماغوط أن يكون منتميا سياسيا لحزب يدعم توجهاته وفكره الحر. التحق بالحزب القومي .. ولكنه اكتشف فيما بعد أن هذه الأحزاب لا تقدم غير الخيبات، وأنه لم يكن ينتمي لغير البسطاء. هو يقول ساخرا عن تجربته : أن مدفأة أغرته بالدفء داخل مقر الحزب هي من جعلته ينظم إليهم، وأن حزب البعث كان بعيدا جدا عن مكان إقامته والبرد في الطرقات شديد . محمد الماغوط لم ينتصر، ولكنه ظل يحارب .. أنهكته الهزائم والانكسارات، ومع ذلك كان في كل مرة يغير سيفه ويبادر بخلق معركته الخاصة. قال كل شيء في الشعر حتى أيقنا أنه لن يقول شيئا بعد ذلك. ولكنه أدهشنا عندما قفز على خشبة المسرح ليقدم لنا (ضيعة تشرين –كأسك يا وطن-غربة-وشقائق النعمان) والتي من خلالها كان ينثر ملح أوجاعه وخيباته فوق جراحنا. أدهشنا للحد الذي جعلنا نضحك فيه حتى البكاء، ونصفق حتى الألم . لم يكن للفرح زاوية واضحة في حياة الماغوط .. حتى على ملامحه الجافة. هو لا يضحك إلا ساخرا وكأنه كان يخشى على وجهه من السقوط ..ربما لأن الفرح ليس مهنته كما كان يردد ! الماغوط رحلة طويلة من الحزن، طريق طويل وشاق من الحرمان. كان مطاردا من كل شيء ومن اللاشيء . من هواجسه، والانتظار، والأمل الذي خانه ولم يحضر في موعده. من الموت الذي كان ينتظره عند عتبة بيته ليرحل بشقيقته “ليلى” ومن ثم “والده” وزوجته “سنية” التي كان رحيلها بالنسبة له أشبه بالسقوط إلى هاوية مظلمة لا قرار لها .. وأخيرا يجد نفسه وحيدا برحيل “أمه”. هذه التراجيديا في حياته شبيهة بحالة الألم التي كتبها في قصائده وكأن الأقدار كانت تحرضه على كتابة حياته بطريقة الفلاش باك . يقول في صفحة من صفحاته الممزقة: بدأت وحيدًا وانتهيت وحيدًا، كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة . يظل محمد الماغوط روحا وعنوانا لمرحلة بأكملها جسدها في شعره. فقصيدة النثر التي أسسها من وجهة نظر الكثيرين كانت صوته الذي كان يبعث به إلى السماء. أحب “قصيدة النثر” التي وجدها المساحة الأكثر إيمانا وتصديقا بأوجاعه. يقول عنها: إنها بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائمًا على الغطرسة والقسوة، وأنها ألغت ديكتاتورية الشعر الكلاسيكي. لقد كان شاعرًا بالفطرة، يكتب كحصان جامح، يكتب وكأنه يتنفس. في أيامه الأخيرة ظل يعتني بنهر “بردى” كل صباح .. يروي له الحكايات .. يقول له القصائد التي لم ينشرها والأسرار العالقة على جدار حنجرته الهرمة. يكتب بالقرب منه في المقهى الذي كان يمشي إليه مسافة طويلة ذهابا وإيابا. بدت علاقته بالنهر كحالة من الترابط الروحي بين الإنسان والأشياء التي تشبهه .. النهر، الطريق الطويل، رائحة القهوة .. وربما العمر الذي يأتي ويرحل سريعا. وكأنه كان يودع دمشق ويبعث برسائل الوداع مع صديقه النهر إلى كل الأرواح التي سكنته .. حالة من التطهر مع شيء طاهر لم يُدنس . وفي ذلك الصباح الحزين من شهر إبريل من عام 2006 لم يحضر الماغوط .. انتظرته طاولته طويلا وكرر النهر دورته كثيرا ولكن الطائر الأحدب كان قد ضم جناحيه إلى جسده البارد وصمت إلى الأبد كما تفعل العصافير عادة في فصلها الأخير.