محمد أحمد عسيري

شاعر الأرض السمراء

بورتريه‎

التاريخ لا يأتي بمفرده، يأتي بذاكرة مزدحمة يريد التخلص منها ليمضي خفيفًا إلى وجهة أخرى. ولكن كيف إذا كانت هذه الذاكرة يسكنها شاعر متمرد لا يشبه إلا أرض وطنه الأسمر.. تلك الأرض الدافئة التي ظلت تغني على إيقاع الحرية طويلًا وقرع طبول الإنسان الذي وهب نفسه للفناء.
طريق طويل ووعر الذي قرر “محمد الفيتوري” المولود في “ولاية الجنينة” السير فيه ليقول للعالم أن هذه الحياة للجميع .. وأنه ليس لأحد الحق في تطويق أعناقنا وسلب حرياتنا؛ لأننا لم نخلق ببشرة بيضاء مثلكم. لقد كان شاعرًا بحجم قارة .. كتب لإفريقيا بكحل عينيه الأسود فكان “عاشق من إفريقيا”.
في مصر كبر الفيتوري .. تشرب ثقافتها والانفتاح الذي واكبته الحركة الثقافية في ذلك الوقت. ومن هناك أبحر إلى مناطق الشعر الساخنة، فكان صارية تلوح من بعيد. رافق في صغره الانطواء والتأمل .
فكانت جدته “زهرة” هي حسه الإنساني الأول .. تمده بحكاياتها وبالحزن الذي أثقل قلبها. كبر داخله الشعور بالقهر وهو يستمع لألم جدته؛ فقرر أن يأخذ بثأرها نضالًا، وسلامًا، وشعرا .. فكان الإهداء لها في ديوان (يأتي العاشقون إليك): إلى الزهرة الإفريقية جدتي المسكينة القائمة في ذاتي رغم شواهد النسيان .
في البدايات شكل لونه عائقًا أمام اندماجه مع الآخر .. فلقد كان يشعر أنه محاط بنظرات ساخرة وهمس بشع يلسع جلده الأسود كلما فكر بالانطلاق. يقول محمود أمين العالم : ((إن بشرته السوداء كانت تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزًا كثيفًا يحرمه المشاركة)) . لذلك اتسعت هذه العزلة لتصبح ملاذًا من كل تلك الويلات .. عزلة إجبارية، ولكنها شكلت داخله ملامح الثائر الذي كان يتحين لحظة الخروج من عنق الوجع ليقول كلمته .

اعتنق الفيتوري فكرًا جديدًا في طرح قضاياه . كان مباشرًا مبتعدًا عن التخفي؛ فهو يؤمن أنه صاحب حق اغتصب ولا بد أن يعيده .. ولكن لا يريد لأحد أن يشعر بالحزن لأجله. وهذا ما جعله معتزًا بشعره .. فخورًا أنه ولد شاعرًا فوق تراب إفريقيا. كانت قصائده تشبه الأجراس البيضاء، تملأ أنغامها الأرض والسماء وتسافر فوق أجنحة النسور. هو يشعر أنه خُلق ليشم رائحة النضال وعرق الحرية المتصبب من الجباه السوداء. لم يخجل من وصف نفسه بالزنجي الأسود .. صرخ بها دون خوف وكأنه كان يحطم أغلال صوته الهزيل :

(قلها, لا تجبن, لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود, لكني
حر أمتلك الحرية )

أراد الفيتوري من خلال هذه المواجهة مع النفس قبل الآخر أن يتحول لبركان أسود ثائر يجتاح بشعره ما زرعه الاستعمار فوق أرضه السمراء الطيبة. حول قصائده إلى براكين سوداء تزيل عوالق العنصرية والظلم والشتات .
إفريقيا عند الفيتوري هي الهم الأكبر في وجدانه، والوجع الذي كان يصطحبه معه أينما رحل العمر كله .. إفريقيا الغابات، ورائحة المطر بعد الجفاف، إفريقيا الموت الرخيص الذي كان يتربص بالناس في الطرقات بدم بارد، إفريقيا الغناء الحزين تحت نجوم السماء البعيدة .
كانت إفريقيا عالمه الكبير قبل أن يكون السودان منزله وصوت أمه ودفء الموقد .. حتى عندما وجد نفسه بلا هويته السودانية رسم وجه وطنه فوق ذراعه؛ ليتذكره كلما غيبته الدروب .
كتب لإفريقيا الحسناء حتى لا تنساه (اذكريني يا إفريقيا)، ولكي لا تشعر بالوحدة غنى لها في ديوان (أغاني إفريقيا)، وكتب لها موثقًا تفاصيل أحزانها في ديوان (أحزان إفريقيا). أعتقد أنه نجح باقتدار أن يحرر الإنسان الإفريقي في قصائده، جعل منه أيقونة مشعة طليقة في فضاء شعره الواسع. يقول عن أمنياته لمعشوقته السمراء : (( كل ما أتمناه لإفريقيا السمراء أن تستمر في كفاحها، وأن تتخلص من عثراتها).

الدرويش المتجول صنع لنفسه نافذة يطل من خلالها على السماء وكأنه كان يبحث عن نجمة تشبهه ليسافر إليها دون عودة. كان يقترب شيئا فشيئا من الرحيل .. يذبل ككرم عنب مهجور. الإصابات المتكررة بالجلطة جعلته يكتب عنوانًا للنهاية الأخيرة كما يفعل في كل قصائده. ربما تلف يده أيضا وفقدانه التحكم فيها وضعف ذاكرته جعلاه يشعر بالوهن .. فيده التي كتبت كل القصائد السمراء انهارت فجأة وتركته ينطفئ كسراج جف زيته، وذاكرته التي جمعت كل شتات القصائد لم تعد تسعفه .
وفي إبريل من عام 2015 وعن عمر 85 عاما .. رقد بسلام – بعد مشوار من الفرح والانكسارات – فوق صدر هذه الأرض التي طالما سكنها وتنقل في أوردتها .. تلحف بتراب أرضه المخضب بالأوجاع والهزائم ونام في هدوء وصدى صوته يتردد في كل شبر منها:
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا.

شاعر الأرض السمراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى