منطق الطير: “لا تحرموا الإنسان من الكذب، لا تحرموه من تخيلاته، لا تدمروا خرافاته، لا تخبروه الحقيقة؛ لأنه لن يتمكن من العيش من خلال الحقيقة!”- فريدريش نيتشه .
لست أدعو للكذب قطعًا، ولا لإنكار الحقائق وتجاوزها في عالم يتسم بترويج الإشاعات وتطويع الحق وتطبيع الأكاذيب؛ من خلال وسائط مفتوحة وسائبة، تتحرر أحيانًا من كل وازع قيمي وأخلاقي بعد أن تحررت من كل سلطة ورقيب؛ فالكذب صفة مذمومة تهوي بالفرد والمجتمعات إلى حضيض الحضارة والمدنية، ويفسد الحياة الاجتماعية بين الناس من خلال فقدان الثقة بينهم، ما يسهم في تشكل مجتمعات مهزوزة مضطربة، تؤثر على الدول وتهز مكانتها وتهدد أمنها واستقرارها .
لكن ثمة سؤال ملح يتبادر كثيرًا في الذهن: هل الحقيقة دوما واحدة؟!، وأن لا تعدد في تلك الحقيقة الواحدة مهما تعددت التصورات حولها؟! واختلفت وجهات النظر تجاهها؟! والظروف والملابسات المحاطة بها؟! أم على العكس من ذلك تمامًا؛ ربما يبدو السؤال فلسفيًّا يخضع لأسس المنطق والبديهيات أو عبثيًّا لا يخضع للقواعد والمسلمات، ولكن بعيدًا عن التنظير والتقعيد وحتى مع التسليم بافتراض الحقيقة الواحدة، فإن من العقل تقبل اختلاف تلقي تلك الحقيقة وتفسيرها ومن ثم إسقاطها على الواقع. ربما في هذه الزاوية لا تعنيني كثيرًا المعايير المتصلة بتحديد الحقيقة ذاتها، فتلك مسألة لا يستهان بها، وتحتاج إلى جهد ووقت ومساحة أوسع، وتعميق البحث في المفاهيم والمصطلحات، والتدبر في عديد الفلسفات والنظريات، وتتطلب قدرًا غير قليل من الإبداع والاجتهاد؛ وإنما يعنيني التعامل مع “الحقيقة” كمنطلق لإطلاق الأحكام والتصورات، وإيجاد مساحات الالتقاء والتعايش بين الإخوة الفرقاء، فالاختلاف في كثير من الأحيان لا ينتج عن الخلاف بقدر ما ينتج عن سوء التفاهم. إن لتلقي الحقائق صور متعددة، ولا يخفى ما لظروف تلقي تلك الحقائق من أثر على تكوين الصورة الذهنية لدى المتلقي، وانعكاسها على التصرفات التالية لذلك التلقي سلبًا أو إيجابًا، ما يستوجب منا جميعا الوعي في التعامل مع ما يعتقد أنه “الحقيقة المطلقة”، والتصرف بحكمة تجاه (انطباعات) شركاء المصير والحقيقة. خبر الهدهد: فوائد السفر..