#بورتريه
منذ أن كان طفلًا وهو مفتون بالتأمل، وطرح التساؤلات المنطقية الواعية .
ينتقي أحلامه ويضعها بحرص إلى جوار النجوم التي كان يشاهدها أكثر وضوحًا عندما تطفئ أمه السراج استعدادًا للنوم . أسئلة عقلية معقدة بالنسبة لطفل في سنه حتى وإن كانت تختبئ في صدره، ولا يفصح عنها في ذاك الوقت . لقد كان يصنع من محيطه الضيق عالمًا واسعًا يتنقل فيه كيف يشاء . يجتاز المحاذير، والأبواب المغلقة دون أن تصفعه حواجز المجتمع . في قريته الصغيرة التابعة لمحافظة (الدقهلية) ولد في أسرة بسيطة .. الأب مأمور زراعي كثير التنقل، والأم سيدة بسيطة نذرت نفسها لأبنائها وتربيتهم . كانت طفولته مزيج من العزلة والانطواء والتنقل .. يدرس باستمرار .. ويقرأ ليساعد نفسه على فهم الإنسان والطبيعة والنظريات، وكأن شيئًا في عقله ينمو أسرع من تكوين جسمه يحثه على البحث والاستنتاج . أدهش “أنيس منصور” في مرحلة مبكرة كل أساتذته بذكائه، يحلل بمنطق بديع كل الأفعال وردود الفعل التي تحدث من حوله . الفتى النحيل، ابن القرية الذي حفظ القرآن صغيرًا في الكُتاب، نشأ وفي قلبه إصرار على إثبات نفسه وكسر قيود التعاسة التي لحقت به في صغره . كان وجهه المائل للسمرة يوحي بشيء من الحزن الدائم، حزن سببه مرض والديه وشعوره بمعاناتهما، وعجزه أمام أحب الناس إليه . هذا الشعور جعله أكثر التصاقًا بهما، مع أنه لم يكن أكبر أخوته . مع الوقت تفاقم حزنه، واتسعت عزلته برحيل والده الذي تسبب له بألم كبير. هذا الفقد جعله شديد الارتباط بوالدته التي كانت له دافعًا وملهمًا للتقدم في هذه الحياة .. يقول عن أمه : (كم أحببت هذه الأم وبكيت ومازلت أبكى فراقها فقد دفعتني للتفوق والقراءة, وحفظ القرآن في طفولتي) . دراسته للفلسفة فيما بعد، وتعمقه في القراءات الفلسفية جعلته أكثر قربًا من مفاتيح وخفايا العقل وطرق التعامل معه . كتب كثيرا في هذا المجال، ولكنه أدرك أن التعقيدات التي تحف هذا العلم لن تصل للقارئ البسيط ما لم يكتبها من أجل البسطاء أولا. كتب المقال بأسلوبه هو، كانت له توليفة لا تشبه غيره صعب على الآخرين محاكاتها. أنيس منصور كان كالظلال يتمدد باستمرار كلما ارتفعت الشمس .. لم يكن هناك أفق لأحلامه .. يتشكل مع نفسه ويتحول في طور حياته حتى بات حديث الأوساط وملء السمع والبصر . ألّف، وترجم العديد من الكتب والمسرحيات . قرابة 200 كتاب بين الفلسفة والأدب والرحلات والفنون . لقد كان مقبلًا على الحياة والتزود بالمعرفة .. يصفه الأديب طه حسين بأنه أكبر قارئ في مصر . عاش حياته للكتابة، وكأنما كانت تحفزه على البقاء، وتمنحه عمرًا جديدًا كل يوم. حتى أنه حين انصرف للصحافة لم يغره العمل الصحفي التقليدي .. بل أراد أن يكون له خطه الممزوج بين الفلسفة والأدب وكان له ذلك . أنيس منصور لم يكن مجرد إنسان عابر في محيطه، بل كان شاهدًا وموثقًا لمرحلة مهمة من مراحل التأسيس والبناء في عالمنا العربي .. مرحلة مشتعلة ثقافيًّا وسياسيًّا . منحته الأقدار أن يكون في عصر ثري يعج بالعقول المبدعة فكان في الطليعة . هو يعترف أن صالون “العقاد” شكل في حياته نقطة تحول .. فالمشاهدات التي عاشها في الصالون الثقافي زودته وجعلته أكثر قربًا من الواقع . لقد تأثر “أنيس” بشخصية العقاد .. تعلم منه التواضع الذي لا يخل بالكبرياء، والمثابرة، والبحث عن النافع من المعارف. نقل كل تلك المشاهدات في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام). فيلسوف رحال .. موسوعي المعرفة ، يسافر بحثًا عن غاية يدركها، يفتش عن أسرار هذا الوجود وما وراء الطبيعة. لا يطيب له المقام بأرض حتى يبحث عن أخرى. أعجب بحياة “الغجر” فألف منهم كثرة الترحال، والركض خلف مواطن الجمال . كان مثابرًا ملتزمًا بالكتابة حتى آخر يوم من حياته .. ينهض عند الرابعة صباحًا .. يسير حافيًّا إلى مكتبه الصغير في طقوس يعرفها الجميع عنه . يكتب حتى شروق الشمس ومن ثم يتوقف .. لتبدأ مرحلة القراءة المتنوعة والمنتظمة. إنه يشبه قطار الصعيد الذي يسير بعزم وقوة في موعده رغم تقادم مفاصله وتهالك القضبان. يستمد طاقته على أداء هذا الجهد من حب القراء الذي كان يلمسه منهم كلما عانقوه . *”الكبار يضحكون أيضا” أيها الفيلسوف الأديب، ويضحكون كثيرًا؛ لأنهم لا يتلاشون سريعا كمشهد عابر. وأنت احتفظت بأناقتك *”من أول السطر” حتى موعد النهاية. وحتى عندما قلت *”تولد النجوم وتموت” كنت على يقين من النهاية التي لا مفر منها. لقد كان *”هناك أمل” دائم معك .. و*”دعوة للابتسام” ومناطق حافلة بالحياة التي كنت تحاول أن تكتب ملامحها بقلمك الأنيق . وكانت النهاية يا”أستاذ” حان الرحيل .. خرجت صباحًا كعادتك دائما، وضعت قلم الحبر فوق كومة الأوراق وانسحبت في هدوء بينما كانت تنتظرك كل الأفكار التي دونتها في الصفحة الأولى . رحل أنيس منصور صباح يوم الجمعة 21 من أكتوبر من العام 2011 عن عمر يناهز 87 عامًا . كان وداعه حافلًا بحجم الإرث المعرفي الذي خلفه طوال ستين عاما من العطاء والإبداع .
ملحوظة / بعض مؤلفات الأديب
*الكبار يضحكون أيضا.
* من أول السطر.
* تولد النجوم وتموت.
* هناك أمل.
*دعوة للابتسام.
أعجبني المقال وطريقة عرضك لحياة المبدع أنيس منصور
شكرا لك