د. جمعان أحمد الغامدي

إدراك متأخر

مرسى الكلمة

كان التسوق متعة، ثم أصبح دهشة. كنا نقرأ ذات زمن عن خمسيني يقضي جل وقته في السوق. كنا نتخيله ونرأف بحاله حينًا ونبتسم حينًا آخر. لم نكن نتصور أننا ذات يوم سنسير في ذات الطريق وفي وسط نفس العلامات، ونتخطى نفس الإشارات وننظر إلى المتسوقين فإذا أغلبهم من صغار السن والأطفال والشباب. وفجأة تلمح أحدهم. نعم هو ذاك الخمسيني الذي كنت تقرأ عنه وتتخيله. لم نكن ندرك ذلك أو نتصوره. تنظر إليه بتمعن فإذا الشيب قد شق طريقه في رأسه ووجهه وتملؤك الدهشة وأنت تستكشف عينيه وكلها فرح ونشوة. عيناه تقولان أن هذا ملك له، وهو يتجول في حق من حقوقه وأن هؤلاء جميعاً ضيوفه هنا. عجيب هذا الخمسيني، الابتسامة لا تغادر وجهه أغلب الأحيان. كأنه جاء للتسوق هنا؛ لكي يوزع ابتسامته ويرعاها. أو لعله يبتسم سخرية مما يرى! ربما الناس ليسوا هم، البائعون اختلفوا شكلاً لكنهم لم يتغيروا فما زالوا صبيانًا صغارًا. زاد قليلًا عدد “البروميشنيستات”. لكنهم لا زالوا كما عهدناهم يجيدون التقاط الزبائن للعرض عليهم وإغرائهم وربما بيعهم منتجهم. هذا الخمسيني الذي يتجول وعيناه تشع وهجًا فرائحيًّا لا زالت تعتريه دهشة المكان والزمان، ولا زال يتعامل مع السوق وكأنه إحدى ممتلكاته. لم يلتفت إلى مكان محدد بل كل همه أن يتابع أولئك الشباب الذي يضج بهم السوق وطرقاته ومحلاته. ولعل الأهم بالنسبة له، ذلك الذي يسترخي في إحدى الجلسات. بالنسبة له، هو رمز لتاريخ مضى ولكتابة قرأها قبل سنوات طويلة. بدأ ينتبه أنه يتحدث بلسان الماضي وأن بينه وبين آخر حدث تحدث عنه نحو عقدين من الزمن، أو ربما أكثر. هل يعقل ذلك؟! يبدو أنه أدرك أخيرًا الحقيقة التي أزعجته كثيرًا وقلبت متعته تلك إلى … ماذا؟ لنقل إذن: إلى دهشة. نعم هو ذلك الخمسيني أيضًا. وهو تلك الصورة التي كانت ذات زمن جزءًا من خيال المستقبل. إنه ذلك الشخص الذي كنا نرأف بحاله. يبدو أن التسوق لم يعد دهشة كذلك.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. المتعة تأتي من خلال مقالات الدكتور جمعان الغامدي التي يختار عباراتها بعناية تنمّ عن احترامه لعقل ووقت القارئ

  2. والله لم أنتبه لهذه الكلمات أو أنه تم نشرها إلا الآن لذلك أعتذر منكم أبا خالد لعدم ردي عليكم مبكراً. شكراً لكم وشكراً لمكة الالكترونية. فقط لا أحتاج منهم لأكثر من التنبيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى