قد يكون لأي منّا معلمٌّ متميز في الإلقاء، لكنّه ليس بشاعر، ولربما قد مسك بزمام التدريب، لكنّه ليس إدارياً ناجحاً، وقد يكون شاعراً متمكناً، لكنه ليس ملقياً مميزاً ! أما أن تجتمع هذه الصفات كلّها في شخصٍ واحد، فهي مااجتمعت في شاعرنا.
ماكتبه قلمي هنا لن يبلغ جزءا من كامل الحقّ، وما عنّ في الروح من خواطر، لن تفي بما ينبغي. حينما هممتُ بأن أبدأ في وضع الأطر الرئيسة لهذه القراءة، كنتُ متحمّسا جدا، ذلك أنّ مبدأ نقل خبرات الحياة من شاعرٍ أحبّه النّاس ماانفكّ يلازمني، والحديث عن الجوانب الإنسانية الأخرى في حياة هذا الشاعر الكبير، لتقرأها الأجيال، ظلّ هاجساً يرافق تفكيري. كانت المشكلة التي تواجهني،وتواجه كلّ عمل دائما، هي انطلاقة البداية، والخطوة الأولى لتمضي المسيرة في مشوار الألف ميل، وكانت تلك الانطلاقة تعني أن أحصل على إذنٍ من المعني بالأمر، مما يعني صعوبة ذلك، لعلمي تماما بأنّه لا يريد حديثا عن شخصيته. ومع إقناعي له بسمو الأهداف ونقاء المقاصد وحق الأجيال، وافق على مضض، مشكورا. بعدما تلقيّت الضوء الأخضر للانطلاق، خفَتَ ذلك الحماس الذي كان وقود أفكاري، وتلاشى شيئا من الاندفاع الذي كان يلازمني، ليس هروبا، بل خوفا، لم أكن أظنّه سيدخل إلى قاموس كلماتي، من صعوبة المهمة حول هذه القامة الشعرية، ورهبة الموقف أمام من يتمتّع بهذه القامة الأدبية الاجتماعية. ذلكَم لأنّ ملكية هذه الكلمات ستنتقل من ملكيّتي ككاتب، إلى القرّاء الكرام، بل إلى الأجيال عبر التاريخ. وأمانة الحرف، وصدق الكلمة، ووضوح العبارة، هي القواعد المهمة التي اتخذتها لبناء هذا الموضوع، والمنهج الذي ألزمتُ قلمي به. حينما أُضيتِ الإشارة لبدء سفينة رحلتنا في أعماق مشاعر ضيفنا، باحثا عن اللآلي الإنسانية النادرة، والدرر النبيلة الكامنة، هالني الموقف، وراودني التراجع، ذلك أنني أمام بحر واسعٍ عميقٍ، ولم ترشدني بوصلتي أين نقطة البداية، وإلى أين مسار الرحلة، ومتى ستكون النهاية ؟! لكنني توكّلتُ على الله، وتذكرتُ الأهداف النبيلة، والمقاصد السامية من هذه الرحلة، فحزمتُ أمتعتي، وشددتُ أشرعتي، وضبطتُ بوصلتي إلى حيث يجب أن تُضبط. تعود بي الذاكرة إلى مجلس علم، وأمسية أدب، في القرية التي طالما تغنّى بها وعشقها، وأحبّتـْه. في منزله العامر كان يستضيف عددا من الشباب الذين كان كلّ واحدٍ منهم يتوق إلى رؤيته والجلوس معه والنهل من علمه وتوجيهاته. تفرّق أولئك النفر في شتّى بقاع المعمورةِ مابين عالمٍ وداعيةٍ وخطيبٍ ومعلّمٍ ومشرفٍ تربوي ومهندسٍ وطبيبٍ وعسكري ومدرّبٍ عالمي. وقد شجّع الكثير منهم للانطلاق في عالم الشعر والثقافة والأدب، أحدهم كاتب هذه السطور، وقد برز الكثير منهم في مجاله وتخصصه فضلا عن الإبداع في عالم الثقافة والشعر والأدب. الإبتسامة المشرقة هي ديدنه في الحلّ والترحال، وفي الإقامة والسفر، وفي الأمسيات الشعرية والتدريبية، ولم أشاهد هذا الرجل إلا مبتسما دائماً، فابتسامته لاتفارقه مع كلّ من يقابله ويقابلهم، ولم أره متجّهماً قط، عدا حينما يلقي قصائدة الثائرة بالألم، المليئة بجراح الأمّة. قال عنه أحد محبّيه من مقدمي أمسياته: [أنّه من كتب “قصائده إلى لبنان”، وحكى لنا عن “مأساة التاريخ”، وهو الذي رسم لنا “شموخ في زمن الانكسار”، وأخَـذَنا معه في “جولة في عربات الحُزن”، وهو(الدكتور) الذي أفصح لنا (شعرا) بأنّه لم كن يسعى لحرف (الدال) جاهاً ووجاهةً، حيث قال: أعطِني في مسيرة الحقَّ طفلا :: واحداً مسلماً أبيّاً غيورا وأرِحني ممّن يعاني و يشـقى :: ليُسمّى في قومه الدكتورا كما أنّه كتب عن “بلادنا والتميّز”، وروى لنا “في وجدان القرية”]. وهو كتب وما زال يكتب قصائده الوطنية عن الحدّ الجنوبي، ويرسم بشعره صورة ناصعة لجنود الوطن البواسل، في توأمة بين جهاد السيف والقلم. وقصائده كانت ولازالت تحمل في أبياتها الكثير من الألم لمآسي الأمة، وليس آخرها مايحدث حاليا في “مضايا”، لكنها تحمل الكثير من الأمل بأنّ الفجر قريب قريب، وإن طال الظلام. فضلا عن تميّزه في إلقائه في دوراته التطويرية التي يقدّمها لراغبي هذا اللون من التدريب، وهو الذي أشغلته (الفصحى) في زمن كثر فيه “تكسيرها” من أهلها، ليؤسس مركزا لتأصيلها والعناية بها وأسماه (مركز تأصيل للتدريب).
هو اول من امسكت بدواوينه الشعرية وقرأتها
وكان انطلاقي لعالم الكتابة
عبد الرحمن العشماوي
شكرا حامد لهذه الاضاءة الرائعة
عرفته قبل الاطلاع على تعليق الاخت ناديه وشوقتنا للجزء الثاني من المقال