المقالات

عبدالله الكايد .. العابر بنعالٍ من ربح”

رؤية : ناصر بن محمد العُمري … المخواة

(عبدالله الكايد) اسم شعري باذخ … يدوزن الشعر على طريقته بإتقان .. له مفردته الخاصة وفلسفته الشعرية التي تميزه عن غيره .. مثخن بالجراح .. مملوء بالأسئلة … وطفل يغني المارة، كما يحلو له تصدير حسابه في تويتر ..
قصيدته دومًا مثقلة بما يمنحها حركية دائبة لاتهدأ عبر تلك السلسلة من الاستدعاءات اللامنتهية مايربك القارئ حقًا هو تلك الانعطافات الشديدة التي يمارسها الكايد عبر قصيدته .. .. وأنت حتما تحتاج حمل إزميل خاص يمكنك من الظفر ببعض مكنونات شعر حقيقي طافح عبدالله الكايد كشاعر ينحو كثيرًا باتجاه ( شعر الذات) .. يمارس الشعر على طريقة (جراح) هوايته الأثيرة النبش في خبايا الألم .. الغريب أن الألم هنا ليس ألم الآخرين .. بل ألم جسده ونتوءات روحه .
.يغني لنا حزنه على طريقة طيور كوين ماك في رواية طيور الشوك . يفعل هذا عن قصدية ووعي كاملين؛ حيث في فلسفة الكايد هذا الفعل مبررة تمامًا.
فالمرأة واحدة من أضلاع الثلاثية القادرة على صناعة (المبدع الآية) يا صاحبي ما يجعل المبدع (آية) إلا الوعي والموهبة والمعاناة! دوما في قصيدة الكايد .. نهر مسفوح من المعاني والأسئلة والتأملات التي تفيض بـ(التذكر – التهيج – الآهات المكلومة .. الفلسفة المتعمقة) في قصيدته (العيون أفواه) يأتي على طريقة رينيه ماجريت Rene Magritte الذي رسم لوحةً لغليون ضخم، ثم كتب تحته: “هذا ليس غليونا”، وقبل ذاك رسم تفاحةً وكتب تحتها العبارة ذاتها: “هذه ليست تفاحة”. كأنها رسالةٌ من الفنان البلجيكيّ للمتلقي تقول: أبدًا لا تنظرْ إلى سطح الشيء، بل إلى عمقه، كما تقول فاطمة ناعوت:”العيون أفواه” كعنوان يضعنا إزاء معنى ضخم حيث يحفر فيها الكايد مجازيًّا على طريقة تميم بن مقبل في بيته الشهير (الفتى حجر) جاعلا العيون أفواه، وذاهبا بنا نحو عوالم درويش في ديوانه «أثر الفراشة»، عندما جعل (الحجر شجرة) وهي أي – العيون أفواه – تعيد لنا مقولة (( إن الأسماء التي نطلقها على الأشياء محض كلمات )) وكأنه يؤكد ماذهب إليه جوزيف حرب وصوت فيروز في ((أسامينا )) بكل تساؤلاتهما الوجودية عندما أعادا إشعارنا بعمق معنى وجودنا عبر أغنية تؤكد أن عينينا هني أسامينا . العيون أفواه تعيدنا للشعر .. للسؤال عن ماهيته .. حيث مهمة الشعر تفكيك العالم وهدم الكون، وإعادة تعريف الأشياء وفضح اللغة التي تثبت عجزها عن كشف الهوية الحقيقية للأشياء فالعيون عند الكايد ليست فقط ماتعارفنا عليه .. من أنها الساحرة والخائنة والواثقة والجريئة والضعيفة المتخاذلة والوديعة المتكبرة والعيون التي تنطق بإيذاء الآخر وعيون أخرى تدل على الغباء والضعف وهبوط الهمة هي عند الكايد (أفواه ) ويفسرها بأنها مثل مانأكل ونشرب تعبنا.. تأكل وتشرب.. مثبتًا لنا أن الشاعر الأجدر هو القادر على إعادة تعريف الأشياء وفق رؤيته ومايروق له، ومعلنًا لجيل كامل من الشعراء أن هناك دروبا أخرى للشعر .. غير تلك التي ألفوها. وارتهنوا لها . إذا آمنا أن الشعر الأجمل دومًا هو ماكان متحاشيا لتسجيل لحظات الفرح بل ماكان متحولا وثيقة لتدوين التعب الإنساني فإن حرف الكايد كثيرا ما مارس دور التلصص على وجعه .. وإعلانه ممارسا دور تفكيك هذا الجسد وإعادة تركيبه على نحو جديد يتفق وسريالية واقعة هذا منطلقًا من وجع ذاته .. يحضر الكايد مستدعيًّا مفردات قادرة على خلق الدهشة بعبارة مغموسة في الذاكرة مانحة المعنى حشدًا من الصور ( جيتي من أقصى حنجرة فلاح في موسم حصاد ) بكل مافي هذا المعنى من احتشاد الصورة والمشاعر؛ حيث التعب المضني والفرح المشوب بالأمل والخير الوفير أمام ناظري الفلاح الغارق في التعب والآمال ويأتي هدوءًا تحته بركان مشتعل (إلى يومك وأنا هادئ مغمض ما فتحت شفاه …. على نفسي ومن نفسي عليها انطفي واشتب) ، وأفعالًا تحدث بتناقض مدهش ظاهرها مختلف عن عمقها الداخلي تكشف ما استتر .. باطنها لايعكس الظاهر( كسوني ثوب .. جردني من أحلام الطفولة)؛ حيث الكسوة للمظهر والزهو لكنها عندما تجردنا من أجمل مانملك ( أحلام الطفولة ) يغدو اللباس محل لحظة طافحة بالاه. يسلك بنا الكايد طرق الحزن الوعرة .. مستحضرًا الكبر ليعبر عن طفل لم يكبر داخله كبرت..! وذاك في صدري إلى البارح وهو يلعب. ويحل جنونًا عندما يتوه ليفتّش فـعين الحرف عن مهرب هل يمكنني وصف الكايد بأنه أحد شعراء الحافة ؟! هنا سأجازف وأقول إن الكايد في كل قصائده يقدس الكتابة ويكفر بها، يكتب ليمحو على طريقة العاشق الذي خط سطرًا في الهوى ومحى .. زاعمًا أنه يجد الراحة في فعل عبثي لامنتهي (عشان ارتاح قلت اشطب فـ صدري بالكتابة (آهـ) … كأني ما شطبت وما كتبت إلا، عشان اتعب) .. والحافة كمكان شعري مفترض لايسكنها إلا ذوي التجربة الشعرية الأصيلة؛ حيث نجد فيها تعريفات أخرى للشعر لا يقوم على أصل سابق. تجربة توسع مساحة القول الشعري كما يقول علي حاكم صالح في( الوقوف على حافة العالم ) وما الجديد في تجربة الكايد إلا روح الشاعر وتجربته الذاتية المنبسطة على امتداد كل كلمة وكل معنى وفي أتون كل حرف ليتحول – عابرًا هائلًا بنعالٍ من ريح بتعبير شربل داغر – مايزال عبدالله الكايد يغرينا به .. رغم أنه يربكنا ويهز قناعاتنا بالحفر العميق في مدائن المعنى حتى نرى (الشفق شفاه) و(الصبح تغريدة)، وأزهاره تغنى لنا معنى آخر عنوانه (ظماه أعذب)! حينها نكتشف أن لدورة حياة الشعر أشكال أخرى وللمعارف آفاقًا أوسع .
معه تؤمن أن للشعر دروب ومسالك كثر لإيجيدها سوى من كان قادرًا على أن يكون لاعبًا بالكلمات والدوال والدلالات تبعًا لنزقه الخاص وهواه الذي لا يحدُّ جنونَه سقفٌ .. ومعها يزرع في حلوقنا غصة ويصب الدهشة في أحداقنا لتظل دهشة الكايد بلا إطار .. كماهو حال الأفق المتسع في العيون أفواه كغيرها من مغامرات الكايد يضرب عرض الحائط بالمعنى التقليدي والصورة الجاهزة، ويظل النداء الوحيد الذي ينصت له هو نداء القصيدة المختلفة الآتية من عوالم آخرى بعيدة ملأى بما لانستطيع القبض عليه كاملًا، وحين ننال حفنة من ذلك العالم الأسطوري أو نظفر بقبس منه يجتاحنا فرح عميم.

 

((العيون أفواه ))

تحت تأثير (الكحل) يلعن، نعاسه
كان رمش وكنت انا وابليس وسوس
فوق راسي كلّها من تحت راسه
يفتح الخنّاس عين الناس للـ(مَس)
في عيون الناس. ناس اكثر شراسة
توّها تصحى وتوّ الليل عسعس
آهـ من يقرأ “تبارك” وسط كاسة
تستوي لي “حرز” واشرب وآآتنفّس
مو عشان يبلّ شرياني يباسه
لا.. عشان الجرح و(الكاس المقدس)
* *
تقول والا ما تقول الرواية
أحيا بكيفي، مو على كيف الاموات
يا صاحبي ما يجعل المبدع (آية)
إلا الوعي والموهبة والمعاناة!
* *
يتوهـ الضو في ليلٍ من الظلما فـ بعضه تاه
مثل ماتوه وآفتّش فـ عين الحرف عن مهرب
على قد الغموض اللي تمادى بي فـ عينه:آآهـ
على هالآه؟! تتمادى عليّ عيونهم واتعب
عيون الناس و(الما) في عيون الناس من يظماه؟!
على حد الهلاك تغنّي ازهاري، (ظماه اعذب)!
يـ عين امّي، نسيت اذكر وصاة (ان العيون افواه)
مثل ما ناكل ونشرب تعبنا.. تاكل وتشرب..
انا اذكر كل ما قلتي (عشان ارضى عليك انساه)
أكيد انساه؟! وآغمّض عشان رضاك لا يغضب
إلى يومك وانا هادي مغمض ما فتحت شفاه
على نفسي ومن نفسي عليها انطفي واشتب
أنا لله احب الناس واكرههم.. كذا لله
حسافة ليتني لله منهم انكره وانحب
كسوني، ثوب جردني من احلام الطفولة: يااه
كبرت..! وذاك في صدري إلى البارح وهو يلعب
خذوني طفل ما كدّت “أماني” شعرها لولاه
رموني، صبّ، متهالك، مشرّد، شاعر واعزب!
يـ يمه قولي ان قالوا نبي قربه.. عشان الله
عشان الله خلوني، تراني من بعيد.. اقرب
أنا بي جرح، مدري مين ابوه؟ وليه ما سمّاه؟!
أنا لي وجه، خلاّه الجفاف السرمديّ اشهب
عليه اعتب، اذا شفت الوجيه من الوجيه اشباه
أعرفه يستحي مثلي، ومن (مثله) عليه اعتب؟!
عشان ارتاح قلت اشطب فـ صدري بالكتابة (آهـ)
كأني ما شطبت وما كتبت الا، عشان اتعب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى