محمد أحمد عسيري

عبدالله نور .. مدينة بلا عنوان

#بورتريه‎

 مشواره طويل كطوله الفارع.. أيام من الركض والعزلة.. وأيام من التوّهج والإبداع.. وأيام لم يذكرها أحد.. ويوم واحد سقط فيه وحيدًا كنخلة يابسة على رصيف مثقل بحزن آخرين يشبهونه. لم يتعرّف عليه أحد، أو لم يشأ أن يتعرّف عليه أحد.. لا يهم لأنه كان قد ودّع مدينته وشوارعها الخلفية التي كان يهرب إليها ويختبئ من الضجيج. طويل جدًا كثقافته الممتدة من التراث إلى الحداثة.. كقناعته بأن العمر قصير.. وأنه لن يكون غير فكره المتوّقد وعقله المستنير وحرفه الذي لم يخذله . أما بقية التفاصيل فهي ليست مهمة؛ لأنه إن بحث عنها أصبح بلا قيمة، وهو الذي لم يكن يؤمن بالأرقام كقيمة صادقة للإنسان .

الأديب الأسمر عبد الله نور سيناريو لحياة كاملة.. بدأ صدفة وانتهى صدفة.. تمامًا مثل اللقاءات التي تعبر سريعًا ولكنها تكون محملة بكم هائل من المشاعر. من حي المسفلة في مكة المكرمة استقرت به الحياة في مدينة الرياض لاعبًا مشهورًا ذائع الصيت. محطات ومشاوير بعضها واضح الملامح والبعض الآخر لم يكتمل. بهرته الكتابة، وأغراه الأدب، لم يتسع له ملعب كرة القدم، فانطلق يراوغ بمهارة داخل ملعب الثقافة والأدب. أحرز أهدافًا في غاية الدقة، وصنع فرصًا بجهد فردي آسر. استهوته المساحات الحرة، والسقوط واقفًا داخل مناطق الجزاء الأكثر سخونة . كان حاضرًا تحت ضوء الشمس التي كتب عن لهاثها في زاويته الشهيرة (لهاث الشمس) حتى ألهبت قلبه . يمتلك مقدرة كبيرة على الإمساك بكل التفاصيل وأدقها. يتجول مع اللغة كما لو أنها لا تعرف غيره .. يمزج بين الإبداع الحديث والموروث الذي يغرفه من بئر ذاكرته المتماسكة دون تجاوز أو تعدٍ يشوه الجمال . عبدالله نور كان شاهدًا على مرحلة مهمة في تأسيس الحراك الثقافي الأصيل والجاد. لم يكن تابعًا فيما يعتقده ويراه .. بل مستقلًا .. لأنه يمتلك مقومات وأدوات الأديب الحر . يقول عنه صديقه مشعل السديري في فضاء ما:(عبدالله مصاب بنوع من العقد النفسية النبيلة، وهذه العقد هي التي صاغته وهذبته وأبدعته وجننته ولولاها لما كان بهذه الحدة والقسوة والرقة والسلاسة فهو كالساطور أحيانا وكخيط الحرير أحيانًا). صاحب (ثقافة الصحراء) عاش كما كان يريد .. متنقلًا من كتاب إلى آخر، ومن قصيدة إلى أخرى، ومن عزلة إلى حضور قوي حتى أصابه الضجر. أعتقد أن هذه الحياة لم تمنحه مساحة أكبر .. وربما أن الرفاق ضلوا الطريق، وتركوه وحيدًا يحفر نفقًا نحو النور. سقط سيفه الخشبي، وتعثر حصانه الذي صنعه من جريد النخل يوم كان يطوف الأرض فارسًا يرتدي عباءة عنترة .

عبدالله نور يشبه المدن البعيدة.. تلك التي أهملتها الخريطة، مع أن الشمس تشرق عليها، ويذهب أطفالها صباحًا إلى المدارس؛ لذلك هو مدينة بلا عنوان يظهر حينًا ويختفي في أحيانٍ كثيرة. يمتلك ذاكرة ضد النسيان وكأنها متصلة بروحه مباشرة.. لأن الأرواح لا تنسى.. لا تشيخ .. تتوهج كلما تقدم بها العمر . هذا الطويل الأسمر ظل يكتب طويلًا في صمت.. أراد أن يكتب بطريقته الخاصة.. بروحه هو.. وفي كل مرة كان يتوقف؛ لأنه يبحر بعيدًا متجاوزًا العقول.. يشعر أن خطواته كانت أوسع وركضه أسرع. ربما لأنه رياضي ماهر مارس التسديد في المنتصف، وتعلم أن الفرصة الحقيقة هي التي لا تأتي إلا مرة واحدة. خانته الفرصة ولم تفي بوعدها.. وربما سلكت شارعًا غير تلك التي كان يسلكها على قدميه. انتظرها حتى وهو ممدّد في ممرات المستشفى المزدحم بالأنفاس الساخنة والأنين.. ولكنها لم تحضر.. غابت كما هي ملامحه اليوم. يقول عنه الشاعر الكبير علي الدميني: (وأنت تجلس إلى عبدالله.. كأنك تجلس مع المعرّي في صومعته وتمضي مع أبي نواس إلى مباهجه.. لقد كان طفلًا يولد في كل ساعة). كان صديقًا للأرصفة.. والمارة.. والوجوه المنكسرة.. عندما يقبل عليك يهطل كله تواضعًا ومعرفة، وعندما تسرقه العزلة، ويعبث به مزاجه المتقلب، تعيد ترتيب حياتك فتجدها شبه فارغة. في آخر أيامه فضّل أن يصمت حتى لا يكون صوته نشاذًا. أدار ظهره للأضواء والصحاب، واعتكف في منزله زاهدًا حتى موعد الرحيل. لم يكمل حلمه ومشروعه الثقافي بأن يقارن بين حروف اللغة العربية التي كانت تسحره والظواهر الطبيعية . ابن «الشميسي» والذي نظم سبعين عامًا من عمره أو يزيد كان يشبه الظلال التي تتمدد فوق الجدران دون أن تثقلها . ظل يطارد «لهاث الشمس» ليبقى في كامل عافيته.. ولكن الظلال تهزمها مواعيد الغروب المنطفئة. خارت قواه فسقط فوق ظله .. منهيًّا حكاية طويلة قبل أن يكتمل فصلها الأخير .

عبدالله نور

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. رحم الله الأستاذ عبدالله وأسكنه الجنة وكم أنت نبيل أيها الكاتب لهذا المقال مشاعر تفيض وفاء وأسلوب فيه سحرا غاب عن كثير من الكتاب
    لقد كسبت صحيفة مكة كاتبا مميزا .
    وحتى لايشك الأخرين أوكد للجميع أني لا أعرف العسيري إلا من خلال هذا المقال الثري الفائض بالإبداع .

  2. الله عليك
    لقد ذكرتنا بالمبدع الكبير عبدالله نور
    هذا المقال رائع
    شكرا كاتبنا المبدع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى