في أول محاضرة لذلك الأستاذ الجامعي، طلب من الطلاب أن يعرِّف كلٌّ منهم نفسه، فقام أحدهم فقال:
– اسمي فلان الفلاني، من مواليد عام….، من منطقة كذا، وقبيلة كذا.
ومن ثم نحت بقية التعريفات ذات المنحى في ذكر الاسم والميلاد والقبيلة، فلما فرغوا قال لهم الأستاذ:
– ليس هذا بالتعريف الذي أريد.
فأطلت الدهشة من وجوههم، إذ ليس هناك تعريف آخر اعتادوا أن يقدِّموا أنفسهم به غير هذا التعريف! فسألهم الأستاذ:
– من تعرفون من المشاهير على مدار التاريخ؟
فذكروا له جملة من القادة والعلماء والمبدعين.
فعاد ليسألهم:
– لماذا اشتُهر هؤلاء؟ هل اشتهروا لأجناسهم أو لقبائلهم أو للمناطق التي يسكنون فيها؟
فقالوا جميعاً:
– لا!
فقال:
– إذن التعريف الذي ينبغي أن يعرِّف به كلٌّ منكم نفسه هو: ما هي الإنجازات والنجاحات التي حققها، وما الذي قدمه لدينه ومجتمعه.
ثم أضاف:
– أما الاتكاء على النسب والاعتماد على القبيلة، فليس هذا إنجازاً أو تميزاً حقيقياً، ولا يد لأحد فيه!
*****
وزار رجل إحدى المدن الأوربية، وطاف بمعالمها، حتى مرّ بمقابر، فلاحظ أن كل مقبرة قد كُتب عليها كلام مختصر، فدفعه الفضول لأن يقترب من إحداها فيقرأ: (البروفيسور فلان الفلاني، العمر: 15 سنة)، ثم قرأ ما كتب على مقبرة ثانية (الزعيم فلان الفلاني العمر: 10 سنوات)، ثم انتقل إلى أخرى فقرأ (الأديب فلان الفلاني، العمر: 5 سنوات)، فاستغرب لذلك، إذ كيف يكون هؤلاء زعماء وأساتذة ومفكرون وأدباء لا تتجاوز أعمارهم خمسة عشر أو عشرين سنة؟!
فلما سأل عن ذلك أُجيب بأن هذه الأعمار المكتوبة على المقابر تمثِّل أعمارهم الحقيقية التي قدموا فيها عطاء وإنجازاً للبشرية.
وحين رجع صاحبنا إلى وطنه، كتب لأبنائه وصية قال فيها:
اكتبوا على قبري (فلان الفلاني: من بطن أمه إلى المقابر)؛ أي أن إنجازه يساوي صفراً!
*****
كثير منا يستند في تعريفه لنفسه على جنسه وقبيلته ونسبه، ويتفاخر بأشياء لا فضل له فيها، مما يقعده عن التميُّز والنبوغ. وقديماً قالت العرب: (قيمة المرء ما يحسن)، وقال بعضهم: (قيمة المرء ما يطلب)، فما يحسنه الإنسان ويتقنه ويسعى إليه هو الذي يميِّزه عن غيره، ويكوِّن شخصيته، ويجعل له كينونة وذاتاً مستقلة، أما الاعتماد على النسب والتفاخر بالآباء والأجداد، فهو لن يفيد صاحبه بشيء، ولعل مصيره في خاتمة المطاف سيكون مشابهاً لذلك الرجل الذي لم يجد في صحيفة إنجازاته شيئاً يذكر!
*****
إن ديننا الحنيف يحضنا على البذل والعطاء حتى آخر لحظة في حياتنا، فقد قال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه أحمد (12512)، ولم يكتفِ بذلك، بل شحذ هممنا حتى يكون لنا عطاء وعمل بعد الموت، وفي الحديث: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم (1631)، وفي حديث: ( إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) رواه ابن ماجه (242) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
وأخبرنا الله جلَّ وعلا بأن ما يخلد من عمل ويبقى وينفع صاحبَه في الدنيا والآخرة هو ما كان خالصاً له سبحانه، وما كان نافعاً للناس، قال جلَّ من قائل: ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد: 17].