محمد أحمد عسيري

قطرات” امرأة في ماء السراب

#بورتريه

الحرف الأول كان هربًا، قفزًا فوق المألوف، مشاكسة للقصيدة والكلمة التي تهطل باردة من سمائها. لم تكن تفتش عن قالب جاهز أو مقاس يليق بها. منذ البداية وهي تصنع لنفسها طريقًا يختصر لها المسافات، ويخلصها من زحام لم تكن تطيقه. لم تجرب ارتداء ثياب أوسع منها حتى لا تظهرها بشكل مهلهل .. استطاعت تحريك العجلة .. دفعتها بقوة لتخرج من دائرتها المغلقة. لقد كان خروجًا مبهرًا .. حفزها على السير بثقة في حقل من الأعين الملتهبة والمخالب الحادة. الشاعرة والكاتبة الأكاديمية (فوزية أبو خالد) دخلت إلى فضاء الشعر والكتابة تحمل فكرها الخاص، وخلفيتها الثقافية المتنوعة. تجاوزت كل المألوف لتكون في مقدمة المجددين لحركة أدبية بمفهوم وشكل لم يكن مستطابًا في البداية لدى الكثيرين .. ولكنه حرك الكراسي، وقلب الطاولة على كل ما هو تقليدي. ولدت فوزية أبو خالد لأب من نجد، وأم من الحجاز. هذا التنوع الجغرافي والثقافي مكنها من تناول الحياتين بشيء من العناية والتفحص .. لأنها كانت قريبة من كلا الجانبين بالتساوي. منذ البداية .. أو منذ القصيدة الأولى، كان همها الكبير الذي لم يغادر روحها هو الإنسان وبالأخص قضايا (المرأة والطفل) وهمهما الاجتماعي. لم تفكر بالسير إلى جوار أقرب حائط منها بحثًا عن ظل يحميها، بصفتها “أنثى” مكبلة بالكثير من اللاءات القاتمة. بل قررت أن تخوض معركتها بفكرها وقلمها، وأن تقول كلمتها حتى وإن كان الألم كبيرًا .

فوزية أبو خالد تمتلك مقدرة خاصة على التخلص من حالة النمطية التي تتملك الكثير من المبدعين. لا تجدها تتحرك في نفس الدائرة دائما. تحاول الخروج فجأة من المساحات المغلقة بأسلوب احترافي أنيق، والتنقل من حقل إلى آخر، محطمة الرتابة التي قد تجعل منها صورة مكررة. مراوغة جيدة للتحديات والحواجز التي اعتادت طوال مسيرتها على الالتقاء بها. هي ترى أن عليها الوصول لعقل المتلقي من أقصر الطرق؛ لأن الوقت أحيانًا لا يمنحنا الكثير من الحرية. ولكي تحدث التغير عليها النقر فوق نوافذ الأعين المغلقة لتلقي داخلها أسئلة مسيلة للدموع ومن ثم ترحل. يقول عنها الناقد الدكتور عالي القرشي (( أن نشاط فوزية أبو خالد، وإبداعها لم يكن، إلا تحديا للألم ومراودة للأمل، فهي لا ترى الألم حالة يأس أو وجع، بل ترى أن الألم يصنعنا ويطهرنا مثل الكلمات، حملت آلام القهر والكبت والإقصاء للمرأة في الثقافة الذكورية، وصرخت ضد ذلك، بتجربة إبداعية، اختارت لها الشكل المناسب المتسق مع عنفوان الجور والقهر الذي تحسه )).

فوزية أبو خالد .. تكتب القصيدة بطفولتها .. بمشاعر حالمة. تربط شعرها بشريط أحمر، وتقفز فوق الحبل وهي تعد للعشرة وعندما تخطئ تعود من جديد . تكتب لتختبئ في قصائدها من ألم الحياة .. من مطاردة الأشباح لها حتى في النهار. القصيدة تصنع لها وللآخرين مخرجًا سريًا وطريقًا مختصرًا لفناء الحرية الواسع . هناك تحت الأغصان المتشابكة، والظلال الناعمة .. تمارس أبو خالد كل إنسانيتها وهي تتحدث إلى السماء دون أن تسقط عليها . تقول في قصيدتها قفص :

تؤلمني هذه العصافير المزعجة كلما خبطت أجنحتها في الفضاء وراحت تغني وكأنها تسخر من سطوتي أو تظنني وحدي في الحصار . كثيرة المحاولات التي أرادت صلبها فوق عارضة الإحباط .. ولكن الأقدار كانت تقف إلى جانبها وتمنحها القدرة على الخلاص. وبرغم كل تلك المحاولات إلا أنها ظلت محافظة على نسق الحياة .. مواطنة بامتياز لم تحاول الثأر أو إشعال حرائق الحقد في زرع هذا الوطن. كانت دائمًا في مقدمة من ينادي بالبناء والتغير والتطور والعدالة الاجتماعية بكل أنواعها . الأمل في قلب فوزية أبو خالد كبير .. لا حدود له والتفاؤل أكبر بغدٍ يحمل ما لا نتوقعه. هي تحاول أن تفتح المزيد من الأبواب ليدخل الأمل بكمية أكبر .. تحاول أن تحدث ثقبًا في الحائط ليتسرب أشعة الحياة .( بابنا مقفل بألف ألف قفل وعرقُ قرنفل يطرق القلب ويدخل عنوةً بماذا رشى الحُراس ؟ . )

في يناير من العام 2011 أنهك جسدها، كاد أن يتخلى عنها، أوشك على الانهيار . ولكنها كعادتها قريبة من ربها .. متمسكة بنصيبها من الحياة المزروعة في أعين أبنائها وأحفادها. لم تأذن لجسدها أن يضعف .. كانت تحدثه عن الله في قلبها .. عن هذا الهدوء الذي لم يفارقها لحظة واحدة . في ذلك العام .. كانت فوزية أبو خالد تقاوم ألم (السرطان) في جسدها .. وتكتب للوطن العربي الكبير شعرًا. الوطن الذي ربما استعاد بعض كرامته ونهض بقدم واحدة فوق ركام القهر والفساد والظلم . لقد كان عامًا مختلفًا في مسيرة فوزية أبو خالد .. اختبار حقيقي للصبر والشعر .. لرؤية الحياة من زاوية أخرى كانت مغيبة . هذه الفوزية تحب الحياة بقدر حبها لأمها (نور) هي تجني من قلب أمها قطع حلوى لأيامها .. للعيد القادم .. للأحفاد الذين يكبرون سريعًا . تصنع من جبين (نور) مرآة لعينيها كي تصبحان أجمل .

فوزية أبو خالد تخرج القصائد والحب من صدر أمها .. من رائحتها التي لم تغادرها كانت كلما اشتاقت لها وهي هناك .. محاطة بالغياب تغني لها (نور العين .. نور العيون) تقول في إهداء لأمها (إلى نور.. أمي ؛ الشاعرة التي انتحلتُ قصائدها لنفسي): (أتسلَّقُ ضفيرتها كما يتسلَّقُ سنجابٌ شجرةَ بندقٍ، نقفزُ في العصاري من عالمٍ إلى عالمٍ، نلهو بالهواءِ؛ كعصافير فتحتْ بابَ قفصٍ تنتقلُ من لعبةٍ إلى لعبةٍ تعلِّمني أسماءَ الزُّهورِ، مواسمَ المطرِ، وحبَّ الوطنِ، وأعلِّمها العنادَ والشَّيطنةِ، نتقاسمُ تفَّاحةً واحدةً، وأحلاماً لا تحصى نرسمُ بالصَّحراءِ، فردوسَ الأسئلةِ، نتراشقُ بماءِ السَّرابِ) هذه بعض ملامح شاعرتنا .. القليل من الركض في طريقها الطويل. منهك البحث عن قصيدة الماء في سراب مدن فوزية أبو خالد .. في صحرائها البعيدة .. في مشوارها المترامي وليس أجمل من أن ندع لها المساحة في الختام لتروي عنها وعن كل من يشبهها : غمستْ أصابعها في الصحراءِ وكتبتْ بماءِ السَّراب قصيدةً.. تقطرُ.. تقطرُ.. تقطرُ إيقاعاً لا يُمسُّ بالحواسّ .

فوزية

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. تسلم بصيرتك شفافة كاشفة حدسية.أريد أن أرسل لك المجموعة الشعرية الغير كاملة لكل الدواوين الصادرة إلى الآن مع إهداء خاص يليق بقدرتك الفذة على القيافة في أنهارالسراب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى