المقالات

الغياب لا يهزم العمدة

 كانت كل حياته مواعيد .. موعد للكتابة، موعد لحكاية يرويها، موعد للأصدقاء، وموعد يعتني به لحبيبته جدة . كل شيء يبدأ بحضوره، وكل الأشياء تنتهي عندما يتلاشى كشراع بعيد. كان حالة خاصة في تركيبته كإنسان، مزيج فاخر داخل جسد ممتلئ بالمحبة حتى اللانهاية. هكذا يبدو دائمًا “العمدة” محمد صادق دياب . على وجهه “الجداوي” الأصيل يرتسم هدوء البحر عند المساء، وفي عينيه مسافات بعيدة من الشجن الأنيق اكتسبها من مواويل الرحيل، والأزقة الحائرة خلف البوابات العتيقة . المدن القديمة كجدة .. لا تستسلم للموت داخل الأسوار، كانت دائمًا ما تغافل الأيام وتخرج من صمتها . ومحمد صادق دياب كان ذلك الراوي الذي ينسج لها الحكايات من صدره .. من ذاكرته الممتدة كأفق شفاف. يلتقيان خارج الوقت .. يركضان حتى يلامس البحر ظلهما، ومن ثم يروي لها الحكاية . الدياب وجه ضد النسيان .. لا يهزمه الغياب .. يظل حاضرًا وكأنه “الآن” .. وكأنه غدا .. والأيام القادمة. لم يكن له تاريخ ميلاد كبقية الأطفال .. أو كأبناء الذوات تحديدًا. كان يقول أنا ابن بحار يلعب معه البحر لعبة الحظ كلما فرد شراعه للريح .. أنا شراع ضلّ طريقه في اليابسة فأوشك على الغرق. لم يكن مهما أن يسجل تاريخ مولدي .. فلا أحد سيذكره .. لأن ذاكرتنا تذوب في ملوحة الأيام؛ لذلك هو أكبر من بنت الجيران بعام، وأصغر من ابن الجيران بعام. ولكن لا أحد منهما يعرف أصلًا تاريخ مولده. ربما لهذا لم تكن تعنيه لعبة الأرقام الجامدة.. استطاع أن يتحرر منها؛ ليكون حرًّا كما يشاء. راقص المزمار الذي كان يراقص الفرح حتى موعد الفجر لم يتغير .. ظل وفيًّا لأمسه وللأصدقاء ولرائحة الحارة التي كتب عنها حكاياته. خطفته أضواء الصحافة ونجومية الأدب، ولكنه احتفظ بداخله الأبيض .

يجلس في “المركاز” بكل أبهة أبناء الحارات. يصدح بضحكته المجلجلة فيعود صداها محملًا بغناء المساء والسمر. إنه عمدة بحق.. يصنع من كل اللحظات حالة من البهجة وكأنه بائع حظ كلما أدخلنا أيدينا في صندوقه العتيق أخرجناها ممتلئة بما يرضينا. يقول عنه صديقه الدكتور فؤاد عزب: “حتى تعرف محمد صادق دياب لا يكفي أن تقرأ له فقط فما يكتبه بعض منه وليس كله.. لا بد أن تجلس إلى محمد؛ لتعرف شكل البشر عندما يمارسون الحب من الأعماق. لقد كان شجرة كبيرة .. كان دائم الظلال. يمتلك روحًا تقطر نبلًا، وهذا ما جعله أيقونة يجمع الكل عليه. الذين اقتربوا من “الدياب” يعرفون جيدًا أن لوجهه عنوانًا ثابتًا ما أن نودعه؛ حتى نعود إليه سريعًا وكأنه شمال لا تعرف بوصلة القلب مرشدًا من الضياع غيره. صحفي يستطيع ببساطة أن يصل إلى القارئ. هو يكتب وكأنه يتحدث إليك مباشرة .. ينظر في عينيك ويبتسم .

أديب رفيع برغم انشغالاته الصحفية التي التهمت ثلاثة أرباعه. إلا أنه ظل متربعًا في مقهى الثقافة بكامل أناقته. كانت كل حياته مواعيد .. وها نحن على موعد معه .. جاء من بعيد ليخبرنا شيئا ما. أخبرناه أننا ننتظره فلم يخلف موعده .. كما هي عادته دائما. قدرنا ألا ننساك يا سيدي؛ لأنك بحار أصيل .. والبحار لا يؤمن بالنسيان ذلك الكائن الخائن الذي لا يطوي غير الأوراق اليابسة ليقتات عليها . الكتابة عن رجل بحجم “العمدة” مغامرة بالغة الصعوبة؛ لأنه يشبه المحيط .. لا تعرف من أين بدايته وإلى أي الجهات سينتهي؟! اليوم نحن لا نتذكرك .. لأنك لم تغب .. اليوم كان موعدا للقاء .. جئنا لنصافح روحك .. لنخبرك أنك كنقش أصيل فوق الرواشين العتيقة .

العمدة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رحم الله عمدة الصحافة السعودية
    يعطيك العافية استاذ محمد مقال جدا مؤثر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى