كَذِبَ “بينوكيو” فطالَ أنفه .. هكذا قرأنا هذه القصة صغارًا .. وهكذا تعلمنا العديد من القصص مثلها ..
زعم اليهود .. أن قبة السلسلة الملاصقة لقبة الصخرة بالمسجد الأقصى بفلسطين كانت مقر حكم سيدنا داوود عليه السلام، وأنه كانت هناك سلسلة من السماء تفضح الكاذب إذا لمسها .. عمومًا .. لم تثبت القصة ..
وجاء “جون لارسون” ويخترع ذلك الجهاز المسمى “البوليغراف” وهو آلة لكشف الكذب؛ ليقرأ عن طريقه معدّل نبضات القلب وتعرّق الجسم والتنّفس وقياس ضغط الدم .. وبعد عدة أسئلة معدة خصيصا لذلك عن طريق أطباء نفسانيين .. تبدأ تظهر آثار فسيولوجية الشخص بخطوط متعرجة يقرأها الجهاز ..
فصاحب الوجه البريء من الصعب أن يجعل من أمامه يعرف بأنّه إنسان كاذب أو مخادع .. فطبيعة الإنسان بفطرته صادق فيما يقول .. ويُصَدّقُ مايسمعه .. ومن يسمعه، ولكن الكاذب بنوعيه المرضي والقهري .. تتبعه بعض العلامات .. كالارتباك وتغير تعابير الوجه والمبالغة في سرد الرواية وتكرار الجُمَلْ وتغير لون وجهه بناءً على عدد ضربات قلبه .. تجعل من كشفه أمرًا لابد منه .. ولكن هذا لا يكفي، وهنا اجتهد العباقرة والمبدعين للبحث والتنقيب عن طريقة تكشف الكذب ..
لنعود أدراجنا مرة أخرى ونعلم أن الكاذب المتمرس لايكتشفه الجهاز .. لكونه أكثر هدوءًا وتركيزًا .. وممارس بارع في شؤون الحياة؛ ولأتذكر ماقاله والدي -رحمه الله- لي يومًا يصف الشخص الكاذب فكان يقول .. “ياكذوب .. كُنْ ذَكُورْ” .. بمعنى يا أيها الكاذب .. كُن متذكرًا لكذبتك .. فنادرًا ما يتذكر الكاذب روايته الأولى ..
والسؤال هنا .. لماذا نريد معرفة الكاذب؟ هل لأننا صادقون ؟! هل لأننا نعيش على تلك المبادئ الراقية التي منحنا هي الله سبحانه وتعالى؟ هل لأنها “جريمة” تعاقب عليها الأمم ؟ هل لأن الخديعة “قاسية” .. أم لأن الكذب “حرام” .. كما تعلمنا ..؟ !!! ..
قال سيدنا محمد النبي جميل الصفات وكريم العادات .. صلى الله عليه وسلم:”الكذب يهدي إلى الفجور” ..
وهنا قال جورج برنارد شو : “عقاب الكاذب ليس بأن لا يصدقه أحد، لكن بأنه لن يصدق أحد”.
لتدور دائرة الزمان .. والعجلة القديمة تترنح .. وتتغير المفاهيم والقيم والاعتبارات .. ليصبح في هذا الجيل .. الكذب مقياسًا مهمًا فيه .. فكم زوج كذب على عروسه عند خطبتها .. وكم من ابنٍ كذب على والديه ليخرج مع أصدقائه .. أو ليتحصّل على بعض المال .. وكم فردٍ كذب على مجتمعه ليحصل على تأييدهم .. وكم شركة خدعت عملاءها بتخفيضات وهمية .. أصبح الكذب علامة نتميز بها وإعلامًا نتبناه .. ومفهومًا لانستطيع الحياة بدونه .. أصبحت ميول الأفراد تقود المجتمعات .. وهنا نتذكر ذلك المثل الذي يقول: “لو أردت أن يصدق الناس كذبك، امزج معه بعض الحقائق” .. وهذا مايحدث تحديدًا .. وننسى أن في بعض الأكاذيب ما يخبر بالحقيقة .. وأن الكذبة لاتعيش حتى تصبح عجوزًا .. فهل تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو بعض الناس بعض الوقت .. لا أعتقد ذلك ولكنك إن فعلتها؛ فلن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت ..
فقد قال أرسطو: “الموت مع الصدق، خير من الحياة مع الكذب”.
إذن أين الصادقون .. فنحن فعلًا نحتاج في هذا الزمان إلى سلسلة داوود أو إلى جون لارسون آخر؛ ليخترع لنا “آلةً لكشف الصدق” فلم نعد نريد معرفة الكاذبين فهم حولنا نعرفهم جيداً ..
وإن وجدت هذه الآلة فعلا .. فعلى من سيكون البدء في تطبيقها .. هل على نبدأ بأبنائنا وزوجاتنا .. أم بأصدقائنا .. أم نبدأ بذلك الموظف الذي زاغ إلى منزله متحججًا بمهمة تخص العمل .. أم على المدير الذي حول مبلغًا إلى حسابه وسجله بالحسابات باسم مشروع .. أم على آئمة المساجد؛ فنحن لم ننسَ ذلك الإمام الذي استغل تعاطف الناس وحبهم لدينهم وجمع مالا منهم بحجة استثمارها وهرب .. أم على رجل المرور الذي أحب أن يكون في صف قريبه الجاني .. أم على ذلك القاضي الذي ارتشى مبلغًا لتغيير مسار قضية .. أم لكشف ذلك الذي يخون الوطن .. وأعتقد بأننا سنبدأ بهذا ..
إنه زمنٌ فقدنا فيه المصداقية ..
فقدنا صفاء المجتمع ونقائه ..
فقدنا الترابط القديم ..
فقدنا الصدق ..
ومعه فقدنا الحب ..
ولكن لنعيش على بقايا الأمل ..
علّها تعيد إلينا بعضًا من الصدق ..
والقليل من القيم التي كنا عليها ..
والكثير من الحب ..
ولن نحتاج بعدها .. “لآلة تكشف الصدق” ..
حمزة عصام بصنوي
كلام رائع صادر من قلب شفاف يحمل الكثير من الأسى
قلب أشعر أنه من الزمن الماضي
حمزة لا تتأسف على الكاذبون فهم الذين يجب أن يتأسفوا على أنفسهم وكن واثق أن الليل وان طال وخبئ الكثير خلفه فبعده فجر مشرق يكشف ما خبأه الليل بضوءه ووضوحه
فمن خلق الليل وغسقه خلق النهار وفجره
فلا تحزن وواصل صدقك وانثر حبرك بورك فيك وفي يمين تحمل قلمك
مع خالص حبي وتقديري لرقي شخصك
ابدع بصرحه
كلامك ذهب ماشاءالله
كلام في الصميم .. يعطيك العافية اخي ابوعصام
وبالتوفيق
مقال رائع لموضوع مهم بوركت أخي حمزة وإلى الأمام.