-
الحجازُ كَنَفُ القداسة، وحاضن الشرف، ومعقل الرسالة، ومهد النبوة، ومأرز الإيمان، وحيث القبلة، ومقام العبادات ومطاف الشعائر. الحجاز بيت حضارة ونهج أصالة ومثوى التاريخ !. وأهل الحجاز عمار البيت وخدامه، فضلهم الله بالجوار على الخلق كلهم أجمعين، إذ كانت لهم حظوة المجاورة وتحقيق الغاية التي تهفو إليها القلوب وتشتاقها الأرواح . دعاهم الله فأجابوه ، يوم أذّن الخليل عليه الصلاة السلام في الناس فأبلغ الله دعوته أرحام النساء وأصلاب الرجال؛ فأوفد لها من يجيبها واختار ممن أجابوها من أسكنهم واديها، الذين أحب جوارهم فأختار منهم للبيت عماره وخدامه ولضيوفه أدلائهم ولوفده مرشديهم، ليجعل الله فيهم وفي عقبهم فضل المكان ومنافع الزمان وبركة الجوار. من استشعر منهم مزيّة الاختيار وآمن بشرف الجوار أبقاه الله فيها، ومن كفر بهما ذهب الله بهم وجاء بقوم آخرين يتعاقبون فيها عبر الأزمنة والعصور !. فكانت هذه المنّة من الله، وهذا الفضل الذي يفرح به الحائز، ويُغبط عليه الفائز، وتزدحم فيه كثرة الجوائز، منّة لا تبلغها المنن، وشريفة لا يفوقها شرف، وسابقة لا يسبقها سابق . فالحجاز مأوى السابق واللاحق ممن قربهم الله، وأكرم وفادتهم وأحسن رفادتهم بجوار البيت ودفء الكنف وبركة المحضن وعناية المهد .
فيا أهل الحجاز عمومًا، ويا أهل مكة على وجه الخصوص، يا أيها المكرمين الأخيار، افرحوا بفضل الله ورحمته عليكم آل الحرم وحاضري المسجد الحرام، إذ سماكم بنفسه واختاركم لجواره فبهذا حُقّ لنا أن نفرح، ولله الفضل والإحسان والمنّة أن جعلنا جيران بيته الذي ليس في الأرض سواه !. ويا أهل الحرم .. الحجاز أبونا وأمنا مكة، ومن يبتغي نسبًا غير هذا النسب الشريف المآخي بيننا فلن يقبل منه، وهو من المبعدين . يا أهل مكة، كيف لمن ولاه الله قبلة يرضاها وأسكنه بقعة حرمها يوم خلق السموات والأرض، أن يظل وجهه يتقلب في السماء والأسماء !. يا أهل مكة، السكنى والجوار تركة متوارثة وقسمة شريفة، فرضها الله لأهل حرمه وخص بها جيران بيته، والمحجوب من حجب اللهُ قلبه عن قيمة الاجتماع ورحم البيت وقربى الكعبة !. يا أهل مكة، لقد كانت فتنتا فيم خلا من سالف أمرنا يوم أن قلنا﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ فقال الله مستنكراً : ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾، ثم كانت الوصية الباقية لنا إلى قيام الساعة: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ . يا أهل مكة : ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ﴾! يا أهل مكة، هذه حقائقنا الأصيلة وأسبابنا السامية وأنسابنا الشريفة، والحقائقُ والأسباب والأنساب لا تشيخ ولا تتبدل .. وهذا زماننا -أهل مكة- والأزمنةُ لا تعبأ بالمخالف لها والغافل عنها، وهذا مكاننا الذي أنزلنا الله فيه، والأمكنةُ لا تدين بالولاء لكائن من كان، والناسُ خلائف الأرض، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين !. هذه الحقائق .. هي حقائق الجوار، التي تسمو بأنفسنا، وهذه السنن التي لن تتغير ولن تتبدل !. وهذه الحقائق التي يجب ألا نخجل من تردادها.. وهذه الأزمنة الشريفة المطهّرة لذواتنا، والتي يجب أن نعيش تفاصيلها ولحظاتها على مراد ربها.. وهذه الأمكنة المقدسة التي نتبيّن الهدى والنور في عرصاتها، والتي يجب ألا نختار عليها جاهليات المعمورة وعَنْتَريات مدائن البُهرج وزخرف الشتات والفُرقة !.
خالد بن سفير القرشي
0