* [سألني صديق متابع هل تعمدت نشر مقالك هذا في ذات توقيت نشرك “فيلم” الباحة؟ فأجبته بأن ذلك لم يكن متعمدًا، فقد شاء الله أن كنت أعمل في “مونتاج الفيلم”، وهو مايستغرق زمنًا طويلًا، وفي ذات الوقت تداعت إلى ذهني صور هذا “الوحي”. ** أشكر كل من غمرني بجميل كلماته ونقاء عباراته، سواء في ذات المقال بالصحيفة، أو برسائل الخاص بحميع الوسائل، فلهم مني جزيل الشكر من أعماق الروح ومن بين حنايا الفؤاد].
* واصل حديثه الذي يلفّه الحزن قائلًا: – ماعاد للبدرِ فيك سنًا، يضيء للسـُّراة ليلهم ويرشدهم في مسيرتهم. ماعاد للشمسِ فيك دفئًا يُبشّر بالبِشْر، ويُنشر (لعصافير البشرِ) كلّ صباح حين غدوتهم، ولا كلّ أصيلٍ حين رواحهم. ماعادت أمسياتك تجمع المحبين والودودين حول دفء وضياء (الملّة*). ولا تحوي السرد الرائع لحكايات الأمهّات والجدّات، المفعم بالتشويق والإثارةِ والإلهام. في لياليك الباردة يهزّني الشوق هزًّا، ويدفعني الحنين دفعًا؛ لأتناول (طاسة طبيخة*)، أحسبها تبعث في نفسي دفئًا، قبل أن تملؤني شبعًا!. وفي أصبوحاتك المنهمرة بـَرَدًا يهزّني ذات الشوق، ويدفعني ذات الحنين كيما أتسلّى بكسرة (مخوضٍ*) دافيء. أو مع إشراقة شمسها تحتضن يدي كِسرةَ (مشرّقِ*) لازال يحتفظ بحرارة (الصّلاة*)، وأنا أتطّلع من (بدايةٍ*)، مستمتعًا بانهمار ذلك البَرَد، منتشيًّا بهطول ذلك الغيث. قاطعته فجأة: – أفرغتَ من حديثك ولومك وعتابك وبكائك وتباكيك؟! – لم أفرغ بعد، ففي النفس الشيء الكثير، لكني أريد أن أسمع منكِ كما سمعتِ منّي؛ حيث يحدوني الفضول والشوق لأسمع تبريرًا لادعائكِ بأننا نحن السبب في فقدِ كلّ هذا !. – حسنًا فلتصغِ كما أصغيتُ، ولتعِ جيّدا كما وعيتُ. – كلّي آذانٌ مصغية، وكلّ خلجاتي لحديثك أوعية، وكلّ ذرّة من كياني في لهفة للسماع منك. – لكنك ستسمع حديثًا قد تعتبره قاسيًّا بمقاييسك !. – لا عليك، فقد تشرّبنا القسوة حتى أصبحت قلوبنا كالحجارة، أو أشدّ قسوة !. – فإلى ماذا سنحتكم، إذا اختلفنا، أإلى انطباعاتك عني؟ أم إلى انطباعاتي عنك؟؟. – لا هذا ولا ذاك، بل دعينا نحتكمُ إلى حكمٍ محايدٍ، لا يرضى بالتحيّز والميَلان ، ولا يأتيه البُطلان. – هل تعتبر ما حلّ بي هلاكًا، أو جزءًا من هلاك؟! (التزم الصمت ولم يرد، فشجعته على استمرار الحديث): – لا عليك، لاتتردّد، فكما ستتقبّل ماسأقول سأتقبّل ماستقول. – وأيّ هلاكٍ أكثر من هذا؟!. – إذا اسمع يا هذا حديثَ من سطحني وسوّاني؛ لتعرف أنّكم بالدرجة الأولى السبب في ذلك: ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾”1. ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾2 ﴿ وَكَأَيِّن مِّنقَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾3 قاطعها بعصبية لم تكن في حديثه: – أسألك بالذي سوّاك، أفنحن ظالمون؟!، رغم أني أرى الظلم مشتركًا هنا بيننا وبينك !. – الظلم لا يأتي إلا منكم، وحديث خالقي عنّي هو من باب: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾4 فالمقصود أن يسألوا أهل القرية. – حسنا، وما مدار الظلم الذي ترينه عليك؟!. – ظالمون لأنفسكم، ظالمون لبعضكم، ظالمون لمجتمعكم، ظالمون لي… – إذا ما تجاوزنا عن الثلاثِ الأولى، أو أجّلنا النقاش فيها، فهل لي أن أفهم النقطة الأخيرة، وكيف تعدّى الظلم إليك؟! – لم يتعدّ إليّ، بل بدأ بي!. – أوضحي أكثر أرجوك. – لقد منحتكم كلّ ما تمنحه أمٌّ رؤوم، منحتكم بفضل خالقي الكساء والغذاء، والظلّ والهواء. منحتكم خيراتي الدانية ألوانًا وأشكالًا، والماء النمير تشربونه زلالًا… – بلى.. بلى فنحن نعرف كلّ ذلك ولاننكره. – ما أسرع ما تدافعون به عن أنفسكم، وما أكذب الحديث حينما يتناقض قولكم مع فعلكم !. – لم أفهم!. – ألم تكن سنّة الحياة أنّها أخذٌ وعطاء، وبقدر ما تأخذ يجب أن تعطي؟! -أتفق معك في هذا. – فما بالكم قابلتم عطائي بجحود، وغرستم في خاصرتي خنجر العقوق؟!. – كيف ذلك؟!.
حامد العباسي
“يتبع”
————
معاني وهوامش:
=الملّة: مكان لإيقاد النار متعدّد الاستخدام، محاط دائريًّا بحاجز طيني لحفظ الجمر والرماد.
=الطبيخة: وجبة ساخنة لذيذة مكوّنة من الذرة الصفراء والملح، وكان صعود البخار الدافيء وقت الشتاء أهم من الوجبة نفسها !.
=المخوض: يشبه الرغيف، لكنه معمول إما في مقلاة (الطريقة السريعة والتي حافظ عليها البعض حتى الآن)، وإما على حجر مسطّح مسخّن يقوم بذات عمل المقلاة.
=المشرّق: أيضًا رغيف معمول على حجر مسطّح، لكن يُحاط غالبا بنبات (الشث) الجاف، فيعطي نكهة وطعمًا ولونًا مختلفًا لايعرفه إلا من ذاق المشرّق.
= الصلاة: هل قرأتم الفقرتين أعلاه؟!، فضلاً ارجعوا إليهما وستعرفون معنى الصلاة، وهي من “الاصطلاء”، ولا علاقة لها بالصلاة/ العبادة إطلاقا.
=البداية: الشبّاك.
1- القصص 59
-2 الحج 45
3- الحج 48
4- يوسف 82
لقد سطرت لنا أسطر من ذهبْ..
هذا شقيق المساء إن جاء و إن ذهبْ..
،،،
مازالت شقشقاتك القرويه تثلج صدور القرّاء ولها صوت وإيقاع ،
لا بل لها وقع ٌ على وفاء أقلام النبلاء ..
فيا شقيق الوفاء أغرقنا نثراً من بدعٍ و ردٍ ..