رغم إنّني سمعت أغاني أم كلثوم بأصوات عديدة، لكن ظلّ أداء الكويتي عوض دوخي متفرّدا، كونه أضفى نكهة خاصّة، للوجبة الكلثوميّة القائمة على عذوبة الصوت، ورقّة الألحان، وجمال الكلمات، والأحاسيس الصادقة، لهذا حرصت على حضور حفل “كلثوميّات” الذي أقامته دار الأوبرا السلطانية، وأحيته المطربتان : السوريّة شهد برمدا ،والمغربيّة أسماء المنوّر، فعاد بنا، ذلك الحفل، إلى زمن الطرب الأصيل عبر أكثر من 100دقيقة:
ياحبيبي طاب الهوى ماعلينا لوحملنا الأيام في راحتينا
صدفة أهدت الوجود إلينا وأتاحت لقاءنا فالتقينا
فتجوّلنا خلالها في حدائق ذلك الزمن، وكانت روح “أم كلثوم” ترفرف على رؤوس الحضور الذي كان معظمه ممّن تجاوز منتصف العمر، وعاش ردحا من ذلك الزمن، وظلّ يستمع إلى تسجيلات أغاني “أم كلثوم”، فلم تنقطع تلك العلاقة، بل بقيت مستمرّة، ومتجدّدة، وكنت أتردّد في قلب بغداد على مقهى يحمل اسم”أم كلثوم” لا يسمع مرتادوها غير أغانيها ، طوال اليوم، وتمتليء جدرانها بصور أم كلثوم، منها صور لها ،خلال زيارتها بغداد عام 1932م حين أحيت على مسرح (الهلال) في محلة الميدان عدة حفلات، وكان عند استقبالها في مطار “المثنى” الشاعر معروف الرصافي الذي نظم فيها قصيدة مطلعها :
أمّ كلثوم في فنون الأغاني
أمّة وحدها بهذا الزمان
مثلما فعل الشاعر جميل صدقي الزهاوي بقوله:
الفن روض أنيق غير مسؤوم
وأنت بلبله يا “أم كلثوم”
وذهب الشاعر كمال نصرت إلى ماهو أبعد من ذلك، فقال مخاطبا إيّاها :
أصوتك العذب أم مزمار داود
شجى الفؤاد وأبكى كل معمود
أمّا الشيخ باقر الشبيبي فقد قال:
صريع الغواني لا تلمني فأنني
صريع أغاني “أم كلثوم” لا “دعد”ِ
سلام على تلك الأغاريد إنّها
أغاريد من وحي الصبابة والوجد ِ
ومع تطوّر الحياة، كان لابدّ من ظهور تسجيلات جديدة لتلك الأغاني بأصوات جديدة، لتظلّ تلك الأغاني خالدة.
لقد ظلّ جمهور “أم كلثوم” وفيّا لها، بل إنّ أحد الحضور قال لي، خلال الاستراحة، ” كنت قد حضرت عددا من حفلات “أم كلثوم” ،واليوم جئت لأسترجع تلك النكهة “، ومع ذلك لم تخل القاعة من جمهورالشباب الذين قدموا، ليستمعوا إلى الفن الأصيل، لكنّ تفاعلهم لم يكن بالدرجة نفسها، التي كان عليها تفاعل البقيّة الذين تمايلوا ،وردّدوا مع أسماء ،وشهد كلمات الأغاني، التي حفظوها عن ظهر قلب:
“أنت يا جنّة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني”
وإذا كانت المطربة “شهد ” قد أدّت مجموعة من أغاني أم كلثوم “مدام تحب بتنكر ليه، وغني لي شوي شوي، وبعيد عنك، ويا مسهرني، وهي على التوالي من الحان محمد القصبجي، وزكريا أحمد ، وبليغ حمدي، وسيد مكاوي، فإنّ أسماء المنوّر أرادت الاحتفاء ليس فقط بصوت أم كلثوم، بل بألحان عبدالوهاب ، فغنّت :هذه ليلتي، وأغدا ألقاك، وأنت عمري، فنقلت الحضور على أجنحة صوتها إلى قامتين من قامات الطرب العربي الأصيل، وكلتاهما أضافتا إلى هذه الوجبة الغنائية من روحهما، وأحاسيسهما، وانفعالهما، الكثير الذي جاء بأداء راق، وتعبير جميل ، وحين انتهى الوقت المخصّص، وقف مصفّقا مرّات عديدة تعبيرا عن رغبته بحب الاستماع، فاستجابت المطربة أسماء المنور إلى طلب الجمهور، وأكملت رائعة الشاعر أحمد شفيق كامل “أنت عمري” بتجل رهيف، واشراق شفيف من الروح، والأحاسيس، والإنسجام النغمي :
رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا
علموني أندم على الماضي وجراحه
اللي شفته قبل ماتشوفه عنيه
عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ
أنّ هذا التميز الذي قدمته المطربتان عاد بنا إلى صورة “عوض دوخي” محتضنا عوده ، وهو يشدو بأغاني “أم كلثوم”، فتميّز بصوته، وأدائه الفريد لتلك الأغاني ، إلى جانب السنباطي الذي أشجى الجمهور بقصيدة “الأطلال” التي لحّنها، وغنّاها بصوته عزفا على العود، والمطربات:نجاح سلام، وسعاد محمد، وعليا التونسية ، وآمال ماهر ، وجاهدة وهبة، والعمانية سميرة البلوشي ، بل أنّ الإعجاب بأغاني “أم كلثوم” عبر الحدود ، ففاجأت الشابّة الأمريكية جنيفر لجنة تحكيم مسابقة برنامج “مواهب العرب” حين غنّت مقطعا لأم كلثوم .
ذلك لأنّ صوت “أمّ كلثوم” يظل خالدا ، وتظل “أم كلثوم” شجرة وارفة الظلال في حديقة الطرب العربي الأصيل .
عبدالرزّاق الربيعي