وقد استخلصت مما سبق جمعًا بين الروايات: أن الذى هدم بيت اللات هما : المغير بن شعبة، وأبو سفيان بن حرب رضى الله عنهما. وأما الذى أمره رسول الله ببناء هذا المسجد عند موضع اللات : هو الأمير عثمان بن أبى العاص الثقفى رضى الله عنه، والي رسول الله على الطائف كما نطقت بها كتب السنة المطهرة؛ لأن عثمان بن أبى العاص رضى الله عنه كان رسول الله قد ولاه على الطائف بعد إسلام ثقيف مباشرة كما سبق، وأمره ببناء هذا المسجد هناك. والذى تولى بناؤه وإنشاؤه هو : عمرو بن أمية بن وهب الثقفى رضى الله عنه بتكليف من الأمير عثمان بن أبى العاص رضى الله عنه فبناه، كما نطقت بها كتب السيرة الشريفة. وكان ذلك سنة تسع من الهجرة تحقيقا. وأما قصة سماع أزيز العمود الذى وافق مصلى رسول الله فى هذا المسجد، فهى معجزة تواترت روايتها كما سبق. وممن ذكرها دون تعليق فيما اطلعت عليه الحافظ ابن كثير القرشى فى تاريخه البداية والنهاية، وكذلك الإمام شمس الدين الذهبي فى تاريخه المسمى تاريخ الإسلام : 592/2 ولم يعلقا عليه بشيء كما هى عاتهما فى مثل هذه الروايات. ومثل هذه الرواية المتداولة بين أعلام الأمة بهذا التكرار ودون نكير لها يدل على قبولهم لها. والحالة جائزة على الله تعالى بل وأعظم من ذلك، والنبي له معجزات لاتحصى، ولكن لم تصدقها العقول التى اشرأبت بالكفر والإنكار والتكذيب، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من بين الأصابع، وسعى الشجر، وتحول العرجون مصباحًا، والحطب سيفًا، وتسبيح الحصى بين يديه، وحنين الجذع إليه، وغير ذلك. وأما موافقة موضع اللات لمنارة المسجد اليسرى فذكرها عدد من العلماء. ومنهم العلامة أبو عبد الله ياقوت الحموى فى معجم البلدان، وقال : السلامة، قرية من قرى الطائف، بها مسجد للنبي، وفي جانبه قبة فيها قبر ابن عباس رضى الله عنه، وجماعة من أولاده، ومشهد للصحابة رضي الله عنهم. ثم قال : قال أبو المنذر : ثم اتخذوا اللات، واللات بالطائف، وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها، وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى﴾الآية. وذكرها العلامة زكريا بن محمد القزوينى فى كتابه آثار البلاد، فقال : وكان في اللات والعزى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذت ثقيف اللات طاغوتًا، وبنت لها بيتًا وعظمته وطافت به، وهي صخرة بيضاء مربعة، فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماه، والحجر اليوم تحت منارة مسجد الطائف . وذكر العلامة أبو المنذر الكلبى فى كتابه الأصنام: وكانت أي اللات في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. وذكرها كذلك الشيخ صفى الرحمن المباركفورى فى كتابه الرحيق المختوم، فقال : ثم اتخذوا اللات في الطائف وكانت لثقيف، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى. وذكر الدكتور جواد على فى تاريخه المفصل : ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف أو تحت منارة مسجد الطائف، وقد عرف البيت الذي بني على اللات بيت الربة. ولا ندري أكان إنشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزًا لحلول بيت الله محل بيت الربة انتهى. وقال الشيخ عاتق البلادى فى جغرافيته : قد وردت نصوص كثيرة على أن رسول الله كان نازلا فى موضع مسجد عبد الله بن عباس اليوم. قلت : ولعل الطائف كانت أحياؤها يومئذ فى جهة وادى مثناة ووادى وج، وكان معسكر رسول الله عند مسجده هذا. وكان موضعه خارج سور قلعة الطائف التى احتمت بداخلها ثقيف، فلما بنى رسول الله مسجده هنالك، تجمع الناس من حوله، وعمرت الأحياء فى مركزه، والتفت الأسواق بساحته، فأصبح قلب الطائف النابض العامر على مدى القرون الماضية وحتى اليوم. وقال الشيخ محمد حسن شراب فى معالمه الأثيرة : وفي الحديث: خطب النبي بالنباوة من الطائف، ومسجد النبي أيام حصار الطائف هو الموضع الذي اتخذه عبد اللّه بن عباس مسجدا، و يعرف اليوم مسجد ابن عباس، وهو في نبوة من الأرض أي مرتفع من الأرض انتهى. وقول الشيخ شراب: هو الموضع الذى اتخذه عبد الله بن عباس مسجدًا خطأ غير صواب. لأن المسجد ليس مما اتخذه عبد الله بن عباس رضى الله عنه ولا هو من أنشأه كما سبق تأصيل بنائه. ولكنه مسجد صلى فيه رسول الله وأمر ببنائه ههنا. وقد سبق مستندنا فى ذلك من الأحاديث الشريفة ومن السيرة النبوية بما فيه الكفاية. وإنما اشتهر باسم ابن عم النبى صلى الله عليه وسلم الصحابى الجليل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما اشتهارا . ويتلخص مما سبق : (1) إن مسجد ابن عباس رضى الله عنه بالطائف : هو مسجد رسول الله أصالة، وقد صلى فيه، وأمر ببنائه، وعين موضع بنائه لهم . (2) إنه ليس مما أسسه الامام عبد الله بن عباس، ولا هو من بناه رضى الله عنه ابتداء ولا هو من أنشأه كما يتوهمه العامة ويظنه الناس، بل وكما توهمه البعض من طبقة المؤرخين والكتاب. ولكنه اشتهر باسمه رضى الله عنه . (3) فضل هذا المسجد وشرفه ينحصر فى كونه مسجد رسول الله . (4) أول بناء له كان فى سنة تسع من الهجرة الشريفة بأمر من رسول الله حيث كانت طاغية اللات، وقد أراد رسول الله بذلك أن يحل الحق محل الباطل، ويشع النور مكان الظلام، ويقام العدل محل الجور، ويمحو أثر الكفر بالإيمان، ويعبد الله عزوجل حيث كان لا يعبد . (5) كان يسمع للعمود الذى وافق مصلى رسول الله فيه أزيزا وصوتا فى كل يوم مع شروق الشمس، وذلك تكرمة الله عزوجل لهذا النبى الكريم ولتشريف هذا المسجد المبارك. وبعد هذا كله : لم أقف على خبر يعتمد عليه أو يستأنس به، فى سبب تسمية المسجد باسم حبر الأمة عبد الله ابن العباس غير أننى أرى أن يكون سبب نسبته إليه تنحصر فى أحد النقاط التالية، وذلك على سبيل الافتراض : • ملازمة الإمام عبد الله بن العباس رضى الله عنه لهذا المسجد، وصلاته فيه، لعلمه أنه مسجد رسول الله ومصلاه، فلعله كان يجلس للناس فيه للفتيا على أكثر تقدير. لأنه ابن عم رسول الله وله شرف القرابة والصحبة، وهو علم من أعلام الأمة وحبر من الأحبار. وهو ترجمان القرآن الكريم ومفسره. فلا غرابة من أن يسمى هذا المسجد الشريف باسمه رضى الله عنه. وكان ابن عباس رضى الله عنه قد استوطن الطائف حتى توفى بها سنة ثمان وستين من الهجرة. وكان قد سئل عن اختياره الطائف على مكة شرفها الله، فقال : مالى ولبلد تضاعف فيه السيئات كما تضاعف الحسنات كما ذكرها العلامة بدر الدين الزركشى فى كتابه إعلام الساجد فى أحكام المساجد . • سكناه إلى جوار : هذا المسجد . • دفنه الى جواره : لأن المسجد كان اسمه مسجد الطائف، فسمى به لقرب مرقده منه كما سمى كثير من مساجد رسول الله بأسماء بعض الصحابة بالمدينة الشريفة فى حين أنهم لم يكونوا قد بنوها أصلا، وكذلك الحال بالنسبة لهذا المسجد . • لقيامه رضى الله عنه بإعادة تعمير هذا المسجد أثناء إقامته بالطائف، بعد أن تضعضع بناء النبى له فنسب إليه وهو الأرجح عندى. لأنه ورد فى صحيح الامام البخارى رحمة الله عليه حديثا نصه : يا عبد الملك: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها ؟ فقال فى شرحه المحدث العلامة محمد أنور الكشميرى، فى كتابه فيض الباري شرح صحيح البخارى : إن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما سكن في مواضع عديدة، فلا تعجب من تعدد مساجده انتهى. فاحتمال تعميره لهذا المسجد أثناء إقامته بالطائف قبل وفاته بها سنة (68) من الهجرة الشريفة وارد . ولا سيما فإن رواية الإمام البخارى فى صحيحه عن أبواب مساجد ابن عباس رضى الله عنه بصيغة الكثرة، تدل على قيامه ببناء أكثر من مسجد فى مواطن شتى، كما فسرها العلامة الكشميرى فى فيض البارى وكونه جدد عمارة هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف من باب أولى، حيث لم ينسب هذا المسجد إلى عثمان بن أبى العاص الثقفى رضى الله عنه الذى كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه. كما لم ينسب إلى عمرو بن أمية الذى قام ببنائه أول ما بنى. ولكنه نسب إلى ابن عباس رضى الله عنه تخصيصا لهذا السبب ثم لشرفه وقرابته وصحبته، ولمكانته العلمية. ولقد دفن ترجمان القرآن عبد الله بن العباس فى مؤخرة هذا المسجد ومعه بعض قرابته. ومنهم سيدنا محمد بن على بن أبى طالب رضى الله عنه المعروف بابن الحنفية لأنه كان مقيما بالطائف. وهو الذى صلى على ابن عباس رضى الله عنه حين توفى سنة 68 من الهجرة الشريفة. وأما كون ابني النبى صلى الله عليه وسلم القاسم وعبد الله مدفونان بالطائف الى جانبه فهو أمر يحتاج الى بحث ومراجعة. وعلى الأرجح إن قبورهما بالحجون بمكة المكرمة وليس بالطائف . وأما مقبرة شهداء الطائف التى تقع خلف المسجد فهى لعدد من أصحاب رسول الله الذين استشهدوا بنبال ثقيف حين رموهم بها بالطائف ، فدفنهم رسول الله فى هذا الموضع. ومن أشهرهم : نعيم بن مسعود الثقفى رضى الله عنه الذى له سيرة فى غزوة الحديبية. وكان قد وفد على رسول الله بالمدينة الشريفة عقيب عودة رسول الله إلى المدينة من الطائف، فأسلم قبل إسلام ثقيف. ثم أستأذن رسول الله أن يكون سفيره إلى ثقيف لكي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له النبى : إنهم قاتلوك. فقال يا رسول الله : إنى أحب اليهم من أبكارهم، وقيل من أبصارهم، وكان محبوبًا مطاعًا فى قومه ثقيف. فلما عاد إلى الطائف، ودعا قومه الى ما أراده من الإسلام، رشقوه بالنبال حتى قتلوه، كما أخبره بذلك رسول الله . فقيل له : ما ترى في دمك ؟ قال : كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في، إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم . وبجانب المسجد اليوم مكتبة عامة. وهى من إنشاء الشيخ محمد رشدى الشروانى رحمه الله . وكان رجلًا عالمًا فاضلًا، وكان واليًّا على الطائف فى عهد الخلافة العثمانية، فجعل هذه المكتبة وقفًا على المسجد، لتكون منهلًا للعلم والمعرفة، ونبراسًا يستضيء به أهالى الطائف ولاتزال. ومن الأمور المتعلقة برسول الله بالطائف : ما ذكره الإمام جمال الدين محمد المطرى فى تاريخه، فقال : ورأيت بالطائف شجرات من السدر، يذكر أنهن من عهد رسول الله ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم، فمنهن واحدة دور جذورها خمسة وأربعون شبرا، وأخرى تزيد عن الأربعين، وأخرى سبعة وثلاثون وكل ذلك شبرته، وأخرى يذكر أن النبى مر بها وهو على راحلته فانفرق جذرها نصفين يدخل الراكب بينهما، يذكرون أن ناقة رسول الله دخلت من بينهما وهو ناعس، والله أعلم بصحة ذلك، رأيتها قائمة وجذرها مفترق يدخل الراكب منه لا يلحق رأسه، وذلك سنة ست وتسعين وستمائة ( 696 ) من الهجرة الشريفة، وأكلت من ثمرها وحملت منه الى المدينة للبركة، ثم دخلت الطائف سنة تسع وعشرين وسبعمائة، فرأيتها قد وقعت ويبست، وجذرها ملقى لايمسه أحد ولا يغيره من مكانه لحرمته بينهم انتهى. وأورد هذه القصة العلامة على بن برهان الدين الحلبى فى السيرة الحلبية، والإمام القاضي عياض فى كتابه الشفاء. والإمام زين الدين أبوبكر المراغي فى تحقيق النصرة. والإمام نور الدين السمهودي فى تاريخه الوفا. وأوردها الإمام القاضي أبوالبقاء صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي المتوفى سنة ( 668 ) للهجرة الشريفة فى كتابه تخجيل من حرف التوراة والإنجيل رواية عن الإمام أبوبكر محمّد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني الشافعي، وزاد : وبقيت السدرة على حالها إلى اليوم، وهي الآن تعرف بسدرة النبي ويحترمها الناس. والله تعالى أعلم .. ومن الفوائد التى تتعلق بذلك لقد ذكر أهل السيرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف زوجتيه: السيدة أم سلمة رضى الله عنها أم المؤمنين وهى مؤكدة، واختلفوا فى الثانية ، فقيل هى : السيدة زينب بنت جحش رضى الله عنها، وقيل هى السيدة عائشة بنت الصديق رضى الله عنها. ولكننى عثرت خلال بحثى على خبر رواه الإمام أبو عبد الله الحاكم في مستدركه، فقال : ومما يتعجب من قضاء الله و قدره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بميمونة بنت الحارث بسرف ( موضع بقرب مكة شرفها الله ) وردها إلى المدينة عند منصرفه من عمرة القضاء، وبقيت عنده إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وقد أخرجها معه إلى أن فتح الطائف وانصرف راجعًا إلى المدينة، فماتت ميمونة بسرف في الموضع الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زواجه منها. وفيه إشارة واضحة إلى أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حصار الطائف. وفي هذا الإظهار كفاية لمن أراد أن يعرف مكانة هذا المسجد وفضله، وتاريخ نشأته، ومن الذى بناه. وهناك مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادى لية من الطائف بيده الشريفة، وسبقت الإشارة إلى ذلك، والله من وراء القصد
السيد ضياء محمد عطا