المقالات

الأوقاف العلمية والصحية وبرنامج التحول الوطني

 بالعودة إلى تاريخنا الإسلامي العريق هناك العديد من النماذج الناجحة التي اقتبسها الغرب وطبقها بنجاح كبير ومنقطع النظير في عصرنا الحديث، ومن هذه النماذج الأوقاف وبالذات التي تُخصص للتعليم أو الصحة؛ حيث ظل هذا النوع من الأوقاف نموذجًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا يحقق التنمية المستدامة والتنمية المتكاملة والتنمية البشرية، وأكاد أجزم بأن العودة للوقف هو عودة لإرثنا وأحد مكوناتنا الذاتية؛ لأنه جزء من تاريخنا.

تُمثل جامعة القرويين في المغرب أول جامعة وقفية في العالم تأسست بفضل التبرعات، وقامت ببنائها السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيراوني عام 245 هـ وقد تخرج منها العديد من العلماء الغربيين والعرب، وكان هناك المستشفى العضدي ببغداد الذي بناه عضد الدولة عام 371هـ، والذي اختار مكانه (الرازي)، وكان نموذج وقفي مهم قدم العلاج والتعليم الطبي بنفس الوقت. وفي العالم الحديث كان للولايات المتحدة الأمريكية السبق؛ فقدمت نماذج ناجحة وحديثة للجامعات الوقفية كجامعة هارفارد العريقة؛ حيث تبرع القس جون هافارد بمبلغ مائة ألف جنيه استرليني؛ إضافة لكل كتبه لمجموعة من طلبة العلم الذين أسسوا هذه الجامعة والذي توفي قبل أن يراها والآن تبلغ القيمة السوقية لأوقافها أكثر من 32 مليار دولار وهو أكبر من رؤوس أموال البنوك السعودية الموجودة مجتمعة، تقوم هذه الجامعة العريقة ومثيلاتها على تنمية أوقافها من خلال الهبات والتبرعات نتيجة لحملات مستمرة تسوقها على الشركات ورجال الأعمال، بل حتى خريجي هذه الجامعة يشاركون بالتبرع لها، ومن ثم يتم استثمار هذه الأموال بشكل مدروس من خلال محافظ عقارية ومالية وشركات تابعة تدار من قبل متخصصين. قد أدركت هذه الجامعة من بدايتها أهمية الاستقلالية المالية لضمان الإنجاز العلمي ونجاح الابتكار مقدمة العديد من الاختراعات والعلاجات التي انعكست وخدمت على البشرية جمعاء وهناك مثل أمريكي مشرف آخر، ولكن هذه المرة لمستشفى وقفي هو مستشفى جون هوبكنز العظيم أحد أفضل المستشفيات في العالم، والذي احتل قائمة يو اس نيوز لأفضل المستشفيات الأمريكية لـ21 سنة متوالية، وشهدت أروقته ميلاد العديد من الإنجازات العلمية حيث أُنشأ عام 1867م بتبرع سخي من رجل الأعمال جون هوبكنز، والذي ترك بوصيته مبلغ سبعة ملايين دولار للجامعة العريقة ومستشفاها، وكان أكبر وصية بزمانها بتاريخ الولايات المتحدة الامريكية وكان الهدف الأساسي للوصية هو تنمية الأبحاث وتشجيع الدارسين لتطوير العلوم.

إن دولتنا المملكة العربية السعودية -رعاها الله- أعطت ومازالت تعطي الكثير للمواطن في مجال التعليم والصحة، وهناك طفرة غير مسبوقة بوجود عدد كبير من الجامعات بمختلف مناطق المملكة وابتعثت مئات الآلاف إلى أرقى الدول وأنشئت العديد من المراكز الطبية والمستشفيات والمدن الطبية، ولكن آن الأوان ليتم تفعيل مبدأ الشراكة لتفعيل المسؤولية الاجتماعية بشكل أكبر من قبل البنوك والشركات الضخمة ورجال الأعمال. وعلى سبيل المثال لا الحصر، مازالت معظم ميزانيات الجامعات لدينا تذهب للرواتب والمشاريع الإنشائية والمستهلكات والصيانة، ويبقى دائما البحث العلمي بمؤخرة قائمة الأوليات وهو أحد رسائل الجامعة المهمة وهو العنصر الأهم لتحقيق النمو والاستدامة .

أعتقد أن هناك العديد من العوامل التي تخدم نجاح التنمية الوقفية وبالتالي توفير مبالغ ضخمة من خارج مايخصص لها سنويًّا من قبل الدولة -حفظها الله- وحتما يجنب ذلك الجامعات تذبذب الميزانيات المعتمدة ويضمن لها الجودة النوعية والتنافسية على المستوى العالمي. ومن أهم هذه العوامل استقلالية الجامعات ماليًّا وإداريًّا وتغيير العديد من اللوائح والقوانين التنظيمية والتي تخدم الأوقاف العلمية، والذي يمكن الجامعات ويعطيها المرونة لتوفير وإدارة هذه المبالغ.

لاشك أن الوطن غني بالكثير من رجال الأعمال أصحاب الصفحات والأيادي البيضاء والمبادرين للمساهمة في الخير، والذين يرغبون بدفع عجلة التنمية ولكن معظمهم يعانون من عدم مرونة اللوائح الموجودة والروتين والبيروقراطية التي قد لا تخدم هدفهم النبيل بالشكل الأمثل، فباعتقادي رجل الأعمال والذي يرغب بالتبرع بالتأكيد يتمنى أن يرى ثمرة بذله أمامه ويطمئن عليه.

وختاما أتمنى من قلبي أن تعقد لقاءات وورش عمل موسعة تحت رعاية برنامج التحول الوطني يكون بين الجهات المسؤولة وبين رجال الأعمال والشركات؛ لاستعراض النماذج الناجحة للأوقاف في الماضي والحاضر وللخروج بتوصيات يتم على إثرها تغيير التشريعات والقوانين، والتي تكفل تفعيل هذا الرافد المهم لتوفيرالمال للاستثمار في مستقبل وطننا تعليميًّا وصحيًّا.

الدكتور محمد بن مصطفى بياري

عميد كلية طب الأسنان جامعة أم القرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى