عبدالحق هقي

“هدرة”..

لُجة الأيقونات- 

منطق الطير: “يجب ألا نتعاتب, يجب أن نتفاهم, ولا نستطيع التفاهم إلا إذا تحدثنا ببساطة الأطفال” – جبران خليل جبران.

هدرة” كلمة يستعملها أهل المغرب العربي في عاميتهم دلالة عن الكلام وكثرته، وهي في الأصل كلمة فصيحة تعود إلى صيغة المبالغة (هذرة)، والهَذَرُ لغة: سَقَطُ الكلام الذي لا يُعبأ به، والهَذِرُ: المِهْذَارُ، مَنْ يُكْثِرُ فِي كَلاَمِهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالْبَاطِلِ، وأهذر في كلامه: خلط فيه وأكثر من الهذيان وغير المعقول!! وبهذا المعنى فإن “الهدرة” لغو الحديث وكلام الهوى، والذي لا يرتجى منه نفع وقد يضر، بلا معنى ولا فائدة، وهو بلا شك عادةٌ سيئة إن جرى على ألسن العامة فما بالك بألسن من تلبس لبوس الثقافة.
لقد باتت كثير من فضاءات التواصل والتفاعل -العامة والمتخصصة- متخمة بالثرثرة، فزيادة عن لغو الحديث وتوافهه، وذهنية (القص واللصق)، توشح بعضهم بلوك فخم المصطلحات وأعقدها بلا أي وظيفة دلالية أو أسلوبية، ولم يتوقف ذلك عند التوشح وإنما امتد إلى توظيفها بلا وعي أو إفراغها من جوهرها أو إقحامها قصرًا، كنوع من “البريستيج” الاجتماعي والمعرفي، حتى غدا الكلام في بعض تلك الفضاءات المتدثرة ثوب “الأكاديمية” حينًا و”الثقافية” أحايين كثيرة أقرب إلى الطلاسم والتمائم.
قد أتجاوز عن فاعلية ما نقوله في أحاديثنا السائبة في فضاء سيبراني يتسم بالحركية والحرية والفاعلية، إلى مسألة فهم كثير من ذلك القول، ولا يقصد بالفهم قطعًا إدراك مراد المتكلم والإحاطة بالكلام واستيعابه، فمن السهل في زمن “العم غوغل” تخطي ذلك، وإنما المقصود بالفهم أثر الكلام على النفس ومعرفة القول بالقلب، ما يجعل من استيعاب الكلام يتجاوز دلالة المفردة إلى منظومة متكاملة تمزج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، وتحويل الدلالة من مقصد الملقي إلى الأفق الذي يطمح له المتلقي.
لا شك أن الغاية والطموح اليوم في عالمنا العربي وفي فضاءاته المتعددة، والمشحونة بذهنية التشاحن والتباغض والتنافر كنتيجة حتمية لسوء الفهم ومن قبله عقلية التوجس من “الفكر الآخر”، لا تتوقف عند مقصدية الفهم، وإنما تتجاوز ذلك بكثير، إذْ إن الفهم مجردًا من غايات أسمى ومتلبسًا بنرجسية المتحدث أو المستمع أشبه بمعركة دونكوتشية غرضها الانتصار للذات بعيدًا عن الانتصار للفكرة، وتمييع القضايا الجمعية الكبرى لصالح قضايا شخصية تافهة؛ إن الفهم الذي ترنو له أمتنا ذلك الفهم الموصل للتفاهم.
خبر الهدهد: وماذا بعد..

عبد الحق الطيب هقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى