اطلعت على كتاب يتناول تجربة منظمة حسن الخاتمة لمؤلفه د. علي خضر، وهي منظمة تعمل في مجال العناية بالمقابر وإكرام الموتى، فشدَّني الحديث عن تجربتهم في نبش القبور لدواعٍ اقتضتها الضرورة، حيث تم تحويل رفات عدد من الموتى إلى مقابر أخرى بإشراف المنظمة وحضور الجهات المختصة وذوي الموتى.
وذكر الكتاب أن عدداً من الرفات في مقابر بري اللاماب وُجدت متجهة عكس القبلة – عياذاً بالله – في مقابل أناس وجدت أجسادهم كيوم دفنها، ينبعث من بعضها روائح طيبة، لم تتأثر بعوامل التربة، وما زالت أكفانها وأربطتها سليمة بيضاء، كأنها دفنت قبل لحظات، على الرغم من مضي عشرات السنين على وفاة بعضها! والعجيب في الأمر أنها لشخصيات غير معروفة للكثيرين!
من أولئك الذي نبُشت قبورهم فوجدت أجسادهم سليمة: رجل عمل بالقضاء والمحاماة، وسخّر حياته للعلم، وعلى تعبير أخته (لم يتخذ مهنة المحاماة من أجل الكسب المادي، بل كان همه تدريب الطلاب وحل القضايا ودياً داخل مكتبه)، وكان مسامحاً بطبعه، وكان يهتم بأبنائه في دراستهم وتحفيظهم القرآن الكريم وحثهم على مشاهدة البرامج الإسلامية، حريصاً على الصلاة في جماعة، وكان محباً للأطفال ويعلمهم قراءة القرآن، مسخراً حياته للدعوة، وكان الأب الروحي للجاليات الإسلامية بأمريكا إبان إقامته بها، وكان مهتماً بإصلاح ذات البين بين أطراف النزاعات بمكتبه.
ومن الذين وُجدت أجسادهم سليمة في قبورهم، امرأة – كما ذكر شقيقها – كان بها من الصفات الجميلة ما جعلها رمزاً لكل الأسرة، فقد كانت تحافظ على الصلاة، واعتادت على صيام يومي الاثنين والخميس، وفي أواخر شهر رمضان كانت تحرص على الصلاة، ليس في أقرب مسجد لها، بل يومياً في مسجد من مساجد اللاماب بحر أبيض، إضافة إلى حسن تعاملها مع الجيران.
وكانت المتوفاة بارة بوالديها، ووتقول دائماً إنها ترجو رضاء الله ثم رضاء والديها. وقد جعلها طيب معشرها محبوبة لدى الجميع، وقل أن تكون عابسة الوجه، وكانت حسنة المعشر ولا تخاصم أحداً، وتعامل أبناءها معاملة حسنة، ودائماً ما تقول لهم: أنفقوا وتصدقوا على المساكين؛ لأن ما عند الله خير وأبقى. وكانت تقدِّم كل ما يكون بيدها.
ورجل وُجد جسده سليماً، حتى إن حجارة اللحد كانت كأنما جيء بها للتو من المصنع، بالرغم من دفنه قبل خمسة عشر عاماً، وعندما سألوا عنه علموا أنه كان يعمل تاجر عيش بسوق السجانة، امتحنه الله تعالى بخمسة من الأبناء، جميعهم كان يتوقف نموُّه بعد عامين أو ثلاثة من أعمارهم، فصبر على قضاء الله وقدره، ورعاهم خير رعاية، وعُرف وسط الناس بالصدق، لم يكذِّب قط ولو مازحاً، وما اغتاب أحداً قط، وكان كثير الصمت والفكرة، لا يقول إلا خيراً، وآخر ما تفوَّه به قبل وفاته: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، وبعدها أسلم الروح إلى بارئها.
وأخذت أقارن بين حياة أولئك الموتى الذين وُجدت أجسادهم سليمة لأعرف سبب هذه الكرامات التي حدثت، والتي تعتبر من عاجل بشرى المؤمن بإذن الله تعالى، فلعلي أقتفي أثرهم فيكتب لي ما كتب لهم؛ فجسدٌ لم يمس بسوء في القبر أحرى به ألا يعذب يوم القيامة، وهذا مقصود كل مسلم: النجاة من عذاب الله تعالى والفوز برضاه وجنته، قال تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
وجدت أكثرهم – كما اتضح لي من سيرهم وشهادات معارفهم – اجتمعت فيهم هذه الصفات أو بعضها: فقد كان أغلبهم متعلق القلب بالله جل وعلا، موحداً له سبحانه، محباً للنبي صلى الله عليه وسلم، متبعاً له، باراً بوالده، صادق اللهجة، نقي السريرة، زاهداً في الدنيا، يتوخى الرزق الحلال، سباقاً في عمل الخير، محسناً إلى الناس، طيب المعشر، دمث الأخلاق، صابراً محتسباً، محافظاً على الصلوات الخمس في وقتها – في المساجد إن كان رجلاً _ محباً للقرآن، مداوماً على تلاوته والعمل به وتدبره وتعلمه وتعليمه، ساعياً في إصلاح ذات البين وقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم، مبتعداً عن الغيبة والنميمة والكلام الذي لا ينفع، لا يضيِّع وقته فيما لا طائل من ورائه، وغير ذلك من الصفات الحسنة والأعمال الصالحة.
فهل بعد أن عرفنا جانباً من سير هؤلاء الموتى الذين نحسبهم أولياء لله تعالى – بالرغم من عدم شهرتهم؛ مما يدل على أن الولاية ليست قاصرة على فئات بعينها – هل نجتهد ونغذُّ السير في اللحاق بهم؛ حتى يكتب لنا بحسن الخاتمة، فتنعم أجسادنا بالسلامة في القبر، ونفوز بالنجاة من العذاب يوم القيامة؟! وفي الحديث أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت قط إلا القبر أفظع منه) صحيح الجامع (1684).
علي صالح طمبل