كنت سأجعلها “هسهسات الخميس” بدلًا من همسات الخميس، فالهسهسة أدنى من الهمس ولو وجدت دون الهسهسة شيئًا لأتخذته، ذلك أن أسماعنا قد مرضت من الجهر الذي ملأ الفضاءات من حولنا ضجيجًا، وتضخمت العقدة حتى باتت أسماعنا تتحسس من الهمس أيضًا، مُلِئَتْ أسماعُنا جهرًا حتى كلّت ثم مُلِئَتْ همسا حتى ملّت، قلت سأجرب الهسهسة ثم لنحكم بعد التجربة، غير أنه قد بدا لي أن كلمة الهسهسة في قريتي كلمة غير مستحبة؛ لأنها تعني “الدشْرة” والداشر (حماكم الله) هو من يركب رأسه ويطوف البقاع بلا هدف وعلى غير هدى، ولأن الواحد منا ملك مشاع لأهله وحارته وقريته وقبيلته وطائفته فقد قررت تجنب الكلمة تقديرًا لقريتي وتضامنًا معها في حربها ضد الهسهسة، الهسهسة كما في المحكي داخل قريتي لا كما هي في القاموس، ولو احتكمنا للقواميس فلن يغلب قريتي غلّاب، من قريتي ثلاثة من أساطين اللغة العربية يُدرِّسون في جامعات مكة وجدة والطائف. والخميس يوم أثير عندي كما هو أثير عندكم، يوم إن كان إجازة وبعد أن أمسى عتبة لإجازة، وهو خامس أيام العرب عندما كان الأحد أولها، وفي بعض أزمنتهم كانوا يسمونه مؤنسًا، وكنا ونحن صغار في الطائف نقول: يوم الخميس نأكل تميس! والتميس متوفر في سائر الأيام ولكن ضرورات السجع تحكم، وكثيرًا ما تتردد كلمة الخميس أو سوق الخميس في أزجال وأغنيات نتداولها فيما بيننا، وفي الطائف زقاق الخميس وفي الباحة خميس الباحة وخميس المخواة وخميس الشعراء، وفي تهامة عسير أكثر من خميس وفي سراتها خميس مشيط، وفي الواقع فأسواق الخميس كثيرة، عندنا وعند غيرنا من العرب وخاصة دول القوس المغاربي، وللخميس معانٍ أخرى تتصل به أو تنفصل عنه، فعندما دخلت الطائف في أول قدومي من قريتي الوادعة وجدت صبيًّا يبكي فسألت ما يبكيك؟ قال الذين معه: قد ضيّع خميسَهُ! وعرفت بعد سنين أن خميسه الذي ضيّعه هو القرش الذي يأتي به للفقيه كل يوم خميس، أجرة له مقابل دروس تحفيظ القرآن في المسجد، والخميس أيضًا الجيش، قيل هي عبرية، وهناك كتب تدنو من الخميس حبا فيه منها: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس لحسين الدِّيار بَكْري (القرن العاشر الهجري)، وهناك: حكاية سوق الخميس للدكتور حسن مؤنس وغدا يكون الخميس للقاصة هدى الرشيد(معاصران) وخميسية الموكلي صالون أدبي في صبيا، وأينما ذهبنا فالخميس من حولنا. ألا أيّها الأحبة، قراء هذه الصحيفة الغراء، همسات الخميس هي نافذتكم التي أطل منها أنا وأنتم كل خميس، نتفرج على الأمكنة، ولا مانع من الفرجة على الأزمنة رغم أنها مخاتلة، ومن “سره زمن ساءته أزمان” كما يقول ابن زيدون.
محمد ربيع الغامدي