تأتي الثقافة كمكون رئيسي في حياة الأمم والحضارات، حيث لم يحدثنا التاريخ عن أمة من الأمم كانت تتبوأ الريادة من دون أن تكون لها ثقافة رائدة؛ لأن الثقافة هي حامل الحضارة، وهي البوصلة التي يتبعها العالم، وهي الحياة نفسها في عالمنا المعاصر، بل لن نغالي عندما نقول: إن الثقافة هي التي تساعد أو تبطل التنمية كونها وعيًّا ومسؤولية وانتماء، بل إنها هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته. وقد أثبت التاريخ علو كعب الثقافة كمدخل إلى معالجة معظم إشكاليات أي أمة كانت، ولا غرابة. فالثقافة تعدّ المترجم الأصلح للحضارة الإنسانية، وهي أداة مهمة لفرض للوجود والتعبير عن الذات، بل هي ذلك المركب الذي نبحر به نحو شاطئ الوجود، ولأن الثقافة كل ما يشمل جميع ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في المجتمع، فضلًا عن ارتباطها بهوية الوطن وشخصيته.
من هنا جاء الأمر الملكي بإنشاء هيئة عليا للثقافة، ليؤكد أن الدولة تعي جيدًا دور الثقافة في صناعة الحضارة. هذا القرار المنتظر يأتي في وقت نشهد تحولًا تنمويًّا يتطلب التحديث لكل مفاصل الدولة، لتصبح الأجهزة الحكومية قادرة على الوفاء بمتطلبات رؤية 2030. والواقع الملح يفرض على المملكة أن تعلي من شأن المثقف، وأن تعمل على خلق بيئة ومناخ ثقافي قادر على إنتاج مثقف نوعي، يضطلع بدوره كشريك فاعل في التنمية، وتحقيق النهوض الثقافي المرتقب، حيث دور المثقف في ظل واقعنا المعاصر محوري، فالمجتمع اليوم في أمسّ الحاجة إلى مثقف قادر على فهم طبيعة المرحلة، واستيعاب متطلباتها مدرك لمهمته، التي تتطلب منه الاضطلاع بدور مختلف بترسيخ مفاهيم الاختلاف، والتعايش، وصناعة أرضية صالحة للاختلاف الحضاري الخلاق، مساهم في الثورة على الأفكار المستنسخة، قادر على اقتراح قوالب جديدة، وموائمة للراهن المعاش. مثقف يتبنّى قيم العدالة والحرية، ثائر على ثقافة قمع الأفكار والحريات، والتي تمثل معضلات ثقافية نعيش أثرها. وهذا لن يتأتّى إلا عبر وجود مثل هذه الهيئة، التي مع إعلان إنشائها بدأنا نشعر أن الحلم البعيد بات قريبا وفي المتناول، وأننا على مقربة من واقع ثقافي مختلف قوامه، حراك ثقافي غير تقليدي، حيث لا معنى لحراك ثقافي يتوقف عند عدد الكتب والنشرات والمطبوعات والندوات والمحاضرات، ولا عدد الحوارات الجوفاء والسطحية بقدر الحاجة لحراك ثقافي يسأل الواقع بجرأة، ويقف بحزم في وجه كل طرح ثقافي يعادي التنوع، ويقمع الحريات، ويصادر الآخر، ويقصيه تحت أي مبرر كان.
حراك نوعي يرسّخ قيم المواطنة والعدل والمساواة، حراك يشكّل في مجمله التفاتة حقيقية لكل أشكال الثقافة التي يمثل فيها الفرد مرتكزًا حقيقيًّا، ويكون الإنسان فيها حجر زاوية فيما يكون المثقف صانع حضارة، وهذا يتوافق مع واقع يفرض نفسه، حيث مهمة المثقف اليوم في التنمية تتعالى. ومع وجود هذه الهيئة يفترض ألا تكون هناك ثقافات مهملة، أو محل إقصاء، فثقافة الطفل والمرأة والقرية والحارة والمسرح والسينما والموسيقى، ستشكل بانوراما خلّاقة، فيما ستشكل المبادرات النوعية جسرًا حضاريًّا يصنعه مثقف حقيقي مؤهل عبر التطوير والتدريب والصقل، ومتفرغ لمهمة الثقافة، وفي وقت تتزايد فيه أهمية صناعة مركب ثقافي عصري واسع قادر على استيعاب جميع أطياف المجتمع، قادر على خلق حوارية بنّاءة بين أفراده، التي تفيد من التنوع لخلق ثراء ثقافي، وتلك هي الوصفة السحرية التي تمكننا من العبور من ضفة الصراعات إلى ضفة السلام والتنمية، فبالثقافة ترتقي الأمم، ذلك لما تمثله من أهمية تتزايد مع الوقت كونها محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة. وإيجاد هيئة الثقافة يجعلنا على مشارف حلمنا الكبير بخلق واقع ثقافي يكون بمثابة التربة الخصبة، التي تنمو فيها العلاقات بين أفراد المجتمع، وتكون الثقافة الواعية هي الباب إلى الحرية، وتصبح الرئة التي يتنفس بها المجتمع -خصوصا وأننا ندرك يقينا أن الثقافة هي روح الأمة، ونستحضر معها تلك المقولة التي تعرف الثقافة بأنها: “ما يبقي بعد أن ننسى كل شيء”. وبهذا القرار المنتظر بتنا على مشارف حلم يتحقق .
رؤية : ناصر بن محمد العُمري