عبارة يقولها البعض في ثوب الناصح، الحادب على مصلحة الناس، المشفق على الآخرين، الذي يحب الخير للجميع! ولكنَّ الغرض من هذه العبارة في غالب الأحيان يخالف ما يبدو من ظاهرها! “خلوا الخلق لخالقها” عبارة يُراد بها تخذيل الدعاة إلى الله -جل وعلا- وتكميم أفواههم؛ حتى يتركوا واجب الدعوة المأمور به شرعًا. “خلوا الخلق لخالقها” عبارة يُراد بها إطالة أمد الباطل وترك العنان للشبهات والشهوات؛ لتفسد الأفراد والجماعات، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27). “خلوا الخلق لخالقها” يُراد بها إيثار السلامة والبعد عن مواطن الابتلاء التي لم يسلم منها حتى الأنبياء الذين كانوا أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، كما في الحديث! “خلوا الخلق لخالقها”عبارة ترفع شعار نفسي نفسي ولا شأن لي باﻵخرين، وتبيِّن السلبية الصارخة التي يعيشها كثير من الناس! “خلوا الخلق لخالقها” عبارة تقال تحت غطاء الحريات الشخصية، ومن خلف ستار التقدمية التي تعتبر الدين تخلفاً، والتمسك تشددًا!.
ورحم الله شيخنا محمد سيِّد حاج الذي قال في رده على من يقول: “خلوا الخلق لخالقها”: (إذا كان خالقها نفسه يقول لنا مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر؛ فكيف نتركهم؟!). ***** وحين قال قوم من بني إسرائيل جملة أشبه بـ”خلوا الخلق لخالقها”، فقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ قال الدعاة العارفون بالله جل وعلا: ﴿ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164]؛ لأنهم يعلمون تمامًا أن عليهم هداية البيان والدلالة، وأن على الله عزَّ وجلَّ هداية التوفيق والإلهام؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: 56). وحين أنزل الله العذاب على بني إسرائيل، لم ينجُ منه إلا الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: 165).
إن مما اكتسبت به أمتنا الإسلامية الخيرية على الأمم الأخرى القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ينصلح به الفرد والمجتمع، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 11]، وديننا هو دين النصيحة مصداقًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) رواه مسلم (55). ****** وترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في الهلاك واللعن والطرد من رحمة الله – عياذًا بالله – قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78،79)
وقد صوّر لنا النبي عليه الصلاة والسلام المجتمع بصالحيه وطالحيه كقوم يركبون جميعًا في سفينة واحدة، ولكن العصاة فيها أبوا إلا أن يثقبوا بمعاصيهم ثقبًا في قاعها، فإن لم يأخذ الصالحون بأيديهم وينهوهم عن المنكر؛ هلك جميع من السفينة، كما في الحديث: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا) رواه البخاري (2439).
وهكذا قد يتسبب العصاة والمفسدون في هلاك الشعوب والمجتمعات وإنزال النقمة والعذاب عليهم بصور متعددة من حروب ومجاعات وأمراض وفقر وغيرها؛ وذلك حين يلتزم الصالحون الصمت، ولسان حالهم يقول: (لا شأن لنا بأحد)، أو كما يقول البعض: (إنت مالك وماله؟! إنت داخل معاه النار؟!). والله تعالى يقول: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25]، ومصداق ذلك حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث) رواه الترمذي (2185) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وفي رواية (إذا كثر الخبث).
فعلى الدعاة ألا ينصاعوا أو يستجيبوا لدعوات المخذلين والمثبطين الذين يريدون إثناءهم عن واجب الدعوة إلى الله تعالى، وألا يلتفتوا لكل من يريد أن يقطع عليهم طريقهم القاصد المراد به وجه الله جل وعلا، وليكن أول ما يأمرون به من معروف: الأمر بتوحيد الله جل وعلا، ثم ما يلي ذلك من الأركان والواجبات والمستحبات، وليكن أول ما ينهون عنه من منكر/ النهي عن الشرك بالله جلّ وعلا، وغيره من الكبائر والمنكرات والمعاصي؛ وليكن شعارهم قول الله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]؛ حتى يعذروا أمام الله جل وعلا عندما يقفون بين يديه يوم القيامة، وحتى ينجوا من عذاب الدنيا والآخرة.
علي صالح طمبل