المقالات

همسات الخميس

كان عام 1391هـ من الأعوام التي خاتلتني فيها القصة القصيرة دون أن يهب لمساعدتي أحد، في ذلك العام نَشَرتْ مجلة البلاد (المجلة لا الجريدة) قصة قصيرة لطالب من مدرسة الشاطئ الثانوية بجدة، بقي اسمه واسم قصته في قلب ذاكرتي التي لا تنسى مواطن الدهشة، حتى أنني تذكرته في نهاية ذلك العام عندما وجدت اسمه أول أوائل الثانوية العامة ولم أجد أي صعوبة في تذكره وفي استحضار قصته التي أحدثت عندي أشياء كثيرة.

في العام الذي يليه كنا في مكة المكرمة زادها الله تشريفا ومهابة، في جامعة الملك عبد العزيز شطر مكة، هكذا كانت قبل أن تصبح جامعة أم القرى، كنت في قسم الجغرافيا وقلبي في قسم اللغة العربية، وكان أبي وأخي وصديقي وابني سعد بن حمدان (الأستاذ الدكتور لاحقا) زميل عمر لا زميل تخصص، كان في قسم اللغة العربية، نفترق أثناء المحاضرات لكننا نلتقي في ساعات الراحة، وكثيرا ما كنا نلتقي في كافتيريا الجامعة.

وجدته ذات يوم على طاولة بيضاء مستديرة، أتذكر من الجالسين عليها عثمان الصيني (الدكتور لاحقا) ودخيل الله الخشّي (عافاه الله) وعاصم حمدان (الدكتور لاحقا) وآخرين أودعتهم متاهات الزمان، كانوا جميعا ممن تعجبك ألسنتهم وتحتويك عقولهم ويأسرك أدبهم إلا واحدا بينهم قد انماز عنهم حتى زاد، تمنيت حينها معرفته لكني استحيت أن اسأل فأجلت السؤال إلى وقت آخر أكون فيه مع سعد على انفراد فاسأله لعله يعرفه.

سألته، لم يتذكر للوهلة الأولى، ذكّرته بمكان جلوسه فأطال في استعادة الصورة، قلت له شاب فصيح جهوري فما زاده ذلك إلا تحديقا في نقطة لا يراها ولا أراها، قلت بعصبية: ذلك الذي كان كأنما هو مذياع من لحم ودم! فتذكر سعد وضحك ضحكة مجلجلة ثم قال وكأنها البديهة تتكلم، ذلك سعيد السريحي فطفقت أكبر، سعيد السريحي الذين كان أول الأوائل على دفعته؟ سعيد السريحي الذي أسرتني قصته القصيرة جني المقبرة؟

كانت مكة تتحدث يومها عن عبد الله باقازي (الدكتور لاحقا) الذي فاز بجائزة هيئة الإذاعة البريطانية للقصة القصيرة، كان باقازي يمر في كل أصيل من أمام دكان أبي في حي الملاوي، يقطع المسافة سيرا على الأقدام من قصر السقاف حيث دكان أبيه إلى أعماق حي الملاوي حيث يسكن، وكان مهيبا في نظري لأنه قد فاز بجائزة في القصة غير محلية، ولأنه كان أنيقا في هندامه، يمشي مستقيما عجلان لا يلتفت، ولأني كنت أنسج ذاكرتي الخاصة على وقع خطاه.

كنت أسأل نفسي وأنا في محاضرات قسم الجغرافيا: ما لذي جعل المشهدي والزهراني والجفري والسريحي وباقازي أشد توهجا وأطغى عندي من فيدال دي لابلاش وفيغنر ومحمد عوض وجمال حمدان، وفي لحظات أكثر صدقا كنت أعيد صياغة السؤال: ما لذي أخذني الى لابلاش وفيغنر ومحمد عوض وجمال حمدان ما دمت أميل للمشهدي والزهراني والجفري والسريحي وباقازي؟ وفي نفس الحقبة جاءني الجواب عندما استضافت حدائق الزاهر بمكة المكرمة مؤتمر الأدباء السعوديين الأول.

حضر طلاب الجامعة ذلك المؤتمر الذي اختتم بعرض سينمائي مسرحي للقصة السعودية كان عنوانه حصاد السنين، عرض لم يحدث من قبل ولم يحدث من بعد رغم التقدم الذي لحق ببيوتنا وشوارعنا وأدواتنا، عرض تضافر فيه العلم والفن والأدب فكانت ليلة فاتنة تليق بقامات الرواد العظام الذي قام المؤتمر بهم ولهم، عدت بعدها قرير العين بكل أصدقائي الذين عرفتهم من داخل بيت الجغرافيا ومن خارجه.

محمد ربيع الغامدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى