(مكة) – متابعة
أكّد إمام وخطيب المسجد الحرام؛ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، أنه مما يدخل في باب الإرجاف وسبيل المرجفين؛ محاولة التشويش على المسلمين والقصد إلى نشر الفوضى والبلبلة تحت أيّ دعوى، واستهداف رابطة المسلمين التي لا يعدلها رابطة، وأخوة الدين التي لا تماثلها أخوة.
وقال “ابن حميد”: “حينما يتوجّه المسلمون إلى هذه البلاد والديار المقدّسة حجاً وعمرةً وزيارةً، فإنهم يتمثلون وحدتهم الجامعة ويتناسون خلافاتهم؛ بل إنهم يوقنون أن هذه الديار المقدّسة في شعائرها ومشاعرها ليست ميداناً لنقل الخلافات، وتصفية المواقف، فيأتي هؤلاء المرجفون ويحاولون أن يصرفوا الأنظار عن معاناة يعيشونها في بلادهم، ومشكلات يعانيها مواطنوهم، ويريدون في إرجافهم أن يستغلوا مواسم العبادة، وتجمّعات المسلمين، والمشاعر المقدّسة لأغراض مسيسة، وتشويش، وبلبلة؛ ما يقود إلى الانشقاقات والفرقة، وزرع الفتن”.
وأضاف: “جرّ المسلمين إلى هذا إفساد لمقاصد هذه الشعائر والمشاعر، وسعي في حرمان ضيوف الرحمن من الأمن والأمان، والتفرغ للعبادة، واستشعار قدسية الزمان والمكان في مسيرات ومظاهرات وتجمعات ونداءات وشعارات ليست من دين الله في شيء مما لم يأذن به الله في كتابه، ولا رسوله – صلى الله عليه وسلم – في الصحيح من سنته، ولم يقل به أحدٌ من أهل العلم، ولم يفعله أحدٌ من أهل الإسلام سلفاً وخلفاً”.
وأردف: “من أجل ذلك، فإن ثوابت سياسة المملكة العربية السعودية خادمة الحرمين وراعيتهما وحاميتهما عدم السماح لأي أحد أو جهة بتعكير صفو أمن المقدّسات، والعبث بأمن الحجاج والعمار والزوار، وهي ملتزمة ومسؤولة عن اتخاذ كل التدابير الحازمة الصارمة للحفاظ على أمن البلاد، وأمن الناس، المواطن والمقيم، والعاكف والباد”.
ونوّه إمام وخطيب المسجد الحرام بما يبذله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ونائباه، ورجال دولته، وشعبه من غالٍ ونفيسٍ في خدمة الحرمين الشريفين، وخدمة قاصديهما قربةً لله، وشعوراً بالمسؤولية، وبرهان ذلك ما تقرّ به عين كل مسلم من الأعمال والخدمات والمشروعات والإنجازات مما يراه ضيوف الرحمن ويشاهده كل قاصد لهذه الديار المقدّسة رأي العين، ولسوف يرون المزيد والمزيد.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها، اليوم، بالمسجد الحرام: “الإرجاف، تبتر منه العبارات، وتقطع النصوص فيه عن سياقاتها وسباقاتها، ثم يكون التعليق عليها بما لا يجوز، ولا يصح، وما لا تتحمله تلك النصوص، ولا تصح فيه النسبة لقائل، ذلك أن الإرجاف والتخذيل يوهنان العزائم، ويثبطان الهِمم، ويضعفان القوي، ويفتّان في العضد، ويشكّكان في القدرات والإمكانات، ويُعظِّمان الأعداء في الأعين، ويتبنيان قصصاً وقضايا وأحداثاً تدور حول الإحباط والتشاؤم والفشل”.
وأضاف: “في الإرجاف تظهر المجتمعات وكأنها فاسدة لا تحمل خيراً أبداً.. حدثٌ صغيرٌ، أو خبرٌ كاذبٌ، أو قولٌ مشكوكٌ فيه، أو معلومة مجتزئة، فيها حقٌ وفيها باطلٌ.. كل ذلك يجعلونه نبأ الساعة، أو الخبر الرئيس، فيملؤون به الإذاعات، وتزدحم به الشاشات، وتعقد له الندوات، وتتزاحم عليه الصور، وتدبج فيه المقالات والتعليقات، وتتواصل فيه المتابعات والتغريدات، حتى يجعلوه إما أعجوبةَ الدهر، وإما قاصمةَ الظهر، من غير مصداقية ولا تروّ، ولا معالجة صحيحة، ثم ينقشع الغبار، ويتبيّن الحال، فلا ترى أثراً، ولا تسمع خبراً.. إرباكٌ للنفوس، وصرفٌ عن المهم، وإشغالٌ عن مصالح الأمة.. يصحب ذلك كلَّه تخويفٌ وتهويلٌ وتضليلٌ”.
وأردف: “الذي يصنع ذلك كله الإرجاف، والمرجفون يثيرون ما يورث الاضطراب والقلق، وعدمَ الاستقرار، ويبثّون كل ما يحبط ويثبط، يخوضون في الأمور العامة من قبل أن يتبينوا حقائقها، أو ينظروا في آثارها وعواقبها.
وقال: “يتحدثون عن الفاسدين والمنحرفين، فيظن السامع أن الثابتين على الحق قليل، وأن الصالحين أقل، يخذلون الصالحين والمصلحين؛ وكأن الصالحين لا يعرفون طريقهم، والمصلحين لا يهتدون إلى سبيلهم، ويكبرون الأخطاء، ويعظمون الزلات ويرفعون الوضيع، ويضعون الرفيع، يكبرون الصغير، ويصغرون الكبير، ويصدون عن التلقي، يغيّرون ويبدلون، ويحرجون، ويتجرؤون على ولاة الأمور، يقتلون الهمم، ويئدون الإبداع، ويقللون من مقام الناجحين.. أهل الخير عندهم لا مكان لهم، وأهل الباطل في رؤيتهم هم الممسكون بزمام الأمور، فَتُنْتزع الثقة من أهل الفضل، ويختفي التأسي بالقدوات، وأهل الصلاح ويخوضون في الأمور الدينية، والأحداث السياسية، والقضايا الاقتصادية، والحوادث الأمنية، والمسائل الاجتماعية، والشؤون التربوية، والصحية والتعليمية، وفي كل الميادين تراهم يخبون ويضعون ويعظمون من شأن الأعداء والخصوم، ويتكلمون عن القوى في العالم، وصناع القرار في عَدَدهم وعُدَّتِهم، يرفعون من شأنهم ، ويحطون من قومهم وأهليهم، في ذلة وخضوع، سيراً في ركاب الأقوياء من الأعداء من حيث يشعرون أو لا يشعرون”.
وتابع: “في التحالف الإسلامي المبارك، وعواصف الحزم والأمل، والتحولات الكبرى ما يرفع الرؤوس، ويدحض الدعاوى، وينير الطريق، ويرسم السبيل”.
وقال “ابن حميد”: “المرجف سبيله التعويق، والتخذيل، ونشر الفتن، والمرجف يتكلم عن الداء ولا يبالي بالدواء، يثير العيوب، ويخفي الفضائل، يقع على السلبيات، ويصد عن الايجابيات، فتظهر السوءات وكأنها هي السمة السائدة في المجتمع، والصفة الغالبة في الأمة، في تخذيل وتضليل، وشيء من الحق قليل، مشدّداً على أن الإرجاف في مآلاته عدوانٌ على الأمة، وتطاولٌ على أهل الحق”.
وأضاف: “ميادين الإرجاف واسعة في الصحف، والمجلات، ومواقع العمل، والمسجد، والمدرسة، وأماكن التجمعات، فتنتشر الأخبار، وتتصدّر الأحداث، وتبرز في خطوط عريضة، وصور كريهة، وأساليب ساخرة، يُلَبِّسون، ويردّدون، ويعلقون، ويضحكون القوم، يرفعون مَن شاءوا، ويخفضون مَن شاءوا، وتحمل أدوات التواصل الاجتماعي في ذلك وزراً كبيراً، وإثماً عظيماً حينما تسارع في نشر الأكاذيب، وتضخيم الأحداث، وبتر الحقائق، وتكثر من تداولها، وإعادة تدويرها”.
وأردف: “أهل العلم قرّروا أن الإرجاف طريق حرام لا يجوز الإقدام عليه، يقول القرطبي – رحمه الله: “.. والإرجاف حرامٌ لما فيه من أذية أهل الإيمان؛ بل ألحقه بعضهم بكبائر الذنوب؛ لأن الله لعنهم في كتابه وقرنهم بأهل النفاق، وأمر نبيه بنفيهم ومقاتلتهم، وتشتد الحرمة في أيام الفتن، وظروف تسلط الأعداء، وما ذلك إلا لأن الإرجاف لو فشا في الناس فإنه لا يزيدهم إلا شراً وفساداً، وضعفاً وهواناً، وفتنةً وفرقة”.
ورأى إمام وخطيب المسجد الحرام، أنه يأتي من بعد المرجفين السمّاعون، عمار المجالس، لا يفتؤون يردّدون الأحاديث، وينشرون الأراجيف في المجتمع الصغير والكبير يخطئون في قراءة الأحداث، ويشوّهون الواقع، بل لعلهم يزورون التاريخ، ويجعلون البئر المعطلة قصراً مشيداً.
وقال: “كم من المتابعين والمغرّدين مساكين، يسلكون مسالك المرجفين والمخذلين والمثبطين؛ واصفاً إياهم بالسذج الجهلاء، الذين يسمعون لهؤلاء المخذلين المرجفين ويفْتنون بهم، ويردّدون مقولاتهم، وينشرون أراجيفهم، فيتولد من هؤلاء وهؤلاء من الشر والبلاء على الأمة ما لا يخفى، ومن العون للأعداء ما لا ينكر”.
وأضاف: “للإرجاف والمرجفين مقاصد ومآرب من الإرهاب الفكري، والحرب النفسية، وتوهين العزائم، وإدخال الهم والحزن على أهل الحق والغيورين على مصالح الدين والأوطان والأمة، وبثّ الفتن والاضطراب بين الناس، وفقدان الثقة، والنيل من الكبراء، وأهل الفضل والاقتداء، ناهيكم ببعض المغفلين الذين ينقلون الأخبار والأحداث من غير تروٍ ولا حكمة، ولا نظر في المصالح والمفاسد، والمقاصد والمآلات، من المسارعين والمسابقين في المنافسات غير الشريفة”.
وأردف: “قد يكون باعثه كره الآخرين، والتعصب المقيت من أجل إساءة السمعة، وخفض المكانة وهز الاستقرار، ونزع الثقة، وأنه لهذا يلاحظ اقتران الإرجاف بالفوضى والتشتت والانفلات، والبعد عن الانضباط والهدوء فلا يرى المرجفُ إلا قلقاً، مكتئباً، متوجساً، سيئ الظن، محبط النفس دائم الشكوى، كثير التبرم، عابس الملامح، الأمل عنده خيبة، والإنجاز لديه عثرة، لا يرى إلا القسوة والشر، ويعمى أن يرى البشر في الوجوه، والخير في الناس وهو إسقاط لمعاناة نفسية، ومعايب أخلاقية، بل هروب من المسؤولية، وتسويغ لسلوكيات عنده خاطئة، لِيرُضيَ نفسه، ويسوغَ مسالكه”.
وتابع: “إن المرجفين والمخذلين لا يضرون إلا أنفسهم، فقد حرموا أنفسهم أن يراهم ربهم في مواطن يحبها، من نصر أمتهم، والسعي في رفعتها، وإعلاء همتها ونصرها، وغالبا ما يتولى كبر الإرجاف الأعداء والمنافقون، ثم يأتي بعدهم بسطاء سذج، ومن المؤلم أنهم من أهل الدار، يعرفون المداخل والمخارج والمخابئ، ثم يستقبلهم مَن يستقبلهم من العوام والدهماء”.
وحثّ “ابن حميد” أهل الإسلام الغيورين إلى إدراك خطورة هذا المسلك، وعظمُ إثمه، وعظيم أثره، وأن عليهم التحرّي في النقل، وفي الاستماع، دون مبالغات كلامية ، ولا مؤثرات صُوَرِيَّة، فالمسلمون في خندق واحد، وسفينة واحدة، وأهل الإيمان لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
كما حذّر المسلمين من أن يكون أحدهم مرجفاً، أو يرجف عليه أو أن يكون مخذلاً لأمته، ناصراً لأعدائها من حيث يشعر أو لا يشعر، وقال: “ليعلم كل صاحب قلم وموقع وتدوين أنه موقوف بين يدي الله، مسؤول عن كل حرف يسطره، أو لفظ يدوّنه، أو صورة ينشرها”.
وأضاف: “الطريق الحق والسبيل الأسلم أن يتجنّب غير المختص، وغير ذي الشأن الخوض فيما لا يعنيه، ويدع الأمر لأهله، والاختصاصَ للمختصين، وأنه قد يوجد مَن هو حسنُ القصد صادقُ الغيرة، يظن الخير والصلاح والإصلاح في إيراد مثل هذه المرجفات والأحداث المقلقة، ويظن أنه يبصر الناس ويحذّرهم من المخاطر؛ لكنه لم يوازن بين المحاسن والمساوئ، والايجابيات والسلبيات، فلا يَعْلَق عند السامع والمتلقي سوى اليأس، وفساد الناس، واستفحال الداء، فتخور العزائم، وتثبط الهمم”.
وأردف: “من أجل هذا ينبغي التفريق بين الإرجاف والنصيحة والإنكار، فالنصيحة لازمة، وإنكار المنكر لا بد منه، والأمر بالمعروف متعين متحتم، والإرجاف هو ما ينشر روح الانهزامية واليأس على حد قوله – صلى الله عليه وسلم: “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”، أما النصيحة وتحذير المسلمين فيكونان فيما يقع من مفاسد ومخالفات مع الاتزان في الكلام ومراعاة أحوال الناس والظروف والمناسبات؛ ما يبرز سلوك مسلك الحكمة والموعظة الحسنة، بل إنه ليقدم العلاج الناجع والحل النافع والمصلح الواثق يعرف الداء لتشخيصه من أجل الوصول إلى الدواء، ويعرف العيوب ليعالجها، ويعرف مقدار نسبتها إلى الفضائل”.