عندما يحل رمضان ضيفاً على المسلمين تختلف طريقة ومكان استقباله من شخص إلى آخر، فينزل في قلوب البعض، بينما ينزل في بطون البعض الآخر!
من كان استقباله لرمضان في قلبه فإنه يعدُّ العدَّة له بإخلاء القلب من سوى الله جل وعلا، وبتعليقه به سبحانه، بلا ندٍّ ولا شريك، فيفرِغ قلبه من الأنداد والشركاء كما يفرغه من الأمراض والعلل، كالنفاق والرياء والهوى والحقد والحسد والغل؛ وحينئذٍ يجد رمضان مدخلاً مباركاً ومنزلاً كريماً في قلبه.
ومن كان هذا شأنه، فإنه يتهيأ لرمضان بالتوبة والاستغفار؛ لأنه يعلم أن الذنوب تحول بين العبد وبين التوفيق إلى الطاعة، فيتوب إلى الله جلَّ وعلا توبة نصوحاً صادقة، يصحبها الندم على ما فرّط في جنب الله، دون إصرار على الذنب أو عزم على العودة إليه، مع رد الحقوق إلى أصحابها.
وهكذا ينزل رمضان من قلبه حيث هو أهل له، ويكرمه غاية الإكرام، ويتفاءل بمقدمه، ويستقبله بحفاوة وبشاشة وطلاقة وجه، ويصوم رمضان بمعناه الشامل الذي يعني صيام القلب والجوارح عن كل ما يغضب الله؛ فيكون جزاؤه أن يظفر ببركات هذا الشهر الكريم، ويوفَّق فيه إلى الصيام والقيام والعمل الصالح، ويحظى بجوائزه القيمة، من تحصيل تقوى الله جل وعلا، ومفغرة السيئات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، والعتق من النيران، والفوز بأعلى الجنان، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين مردة الجن، وغُلِّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ويُنادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، يا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) رواه الترمذي (682) صحيح الجامع (759).
وفي الطرف الآخر، هناك من لا يبذل جهداً في إفراغ قلبه من التعلق بسوى الله جلّ وعلا، من الأنداد والشركاء، ولا يجتهد في تنقيته من الشوائب والأمراض، فسيظل أسيراً للهوى وحب الدنيا وطول الأمل والتعلق بالمخلوق، ويبقى سجيناً للأحقاد والشبهات والشهوات.
ومثل هذا النوع لا يجد منزلاً يُنزل فيه رمضان سوى بطنه؛ لأنه اختزل معنى الصوم في الحرمان من الجوع والعطش والشهوة، دون التفكر في مقاصد هذا الشهر العظيمة ومعانيه، فإذا اقترب رمضان تشاءم واشمأز، وأسرع إلى أطايب الأكل والشرب فانهال عليها كأنه مقبل على سفر لا زاد فيه ولا معين! وربما قارف المحرمات والمنكرات؛ ظناً منه أنه سوف يعوِّض بذلك ما سيفوِّته أيام الصيام! فإذا أقبل رمضان صام عن الأكل والشرب، ولم يصم قلبه وجوارحه عن معصية الله جل وعلا، وأضاع وقته في مشاهدة وسماع وفعل مايغضب الله تعالى، وتعامل مع رمضان باعتباره ضيفاً ثقيلاً يجب الانشغال عنه بما يكسر الملل ويجلب البهجة، وإن كان ذلك بالمحرمات.
فكان جزاءً وفاقاً لمثله أن يُحرم من مِنح هذا الشهر ومكافآته، فيخرج منه خالي الوفاض، إن لم يخرج بمضاعفة الذنوب والمعاصي، ليصدق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني) وقوله عليه الصلاة والسلام: ( رغم أنف عبد (أي خاب وخسر) دخل عليه رمضان فلم يغفر له) صحيح الترغيب.
إذن ما دام العمر قصيراً والفرص محدودة، فعلى المسلم أن يختار بين الاثنين: بين أن ينزل رمضان المنزل الذي يليق به في قلبه؛ فيقطف الثمار اليانعة ويفوز بالعطايا الجزيلة، وبين أن يُنزله في بطنه، فيخرج منه بالخذلان والحسرة والندامة.
عليه أن يختار فلعله لا يدرك رمضان بعد عامه هذا، مثل كثيرين حال الموت بينهم وبين رمضان الحالي!
علي صالح طمبل