المقالات

همسات الخميس

منذ عقد من الزمان حملت حقيبة سوداء وتوجهت بها الى شارع في حي السليمانية بجدة تكثر به مكاتب خدمات التصوير، تصوير الأوراق والوثائق، ذلك الشارع يتفرع من شارع الملك عبد الله أمام شركة بالبيد ويصل إلى بوابة من بوابات جامعة الملك عبد العزيز، على ضفته اليمنى واحات السليمانية وعلى اليسرى حي السليمانية العتيد، في بدايته على يسراك محطة بن مرضاح وعلى يمناك صراف سامبا وهناك أمام ذلك الصراف التعيس أضعت جزءا غاليا مني.

        في الحقيبة السوداء بضعة كتب منها النادر ومنها المخطوط وعشرات الوثائق كل وثيقة في ورقة واحدة الا وثيقتين، واحدة في ورقتين والثانية في ثلاث ورقات، كنت قد عكفت على جمعها سنين، قليل منها اشتريته بالمال وأغلبها تسلمته من ملاكها الأصليين هدية جاءوا بها إلى باب بيتي في الباحة عدا واحدة جاء بها صاحبها الى بيتي في جدة وكتاب نادر ظفرت به من زميل في ثانوية الصديق بجدة.

        كان المهتمون بالتاريخ وكثير منهم أصدقاء وبعضهم أقرباء قد طلبوا مني وألحّوا علي في الطلب أن أطلعهم على تلك الكتب والمخطوطات، وكنت أتهرب من مطالباتهم خوفا على تلك الثروة من الضياع فقد كانت أوراقها بالية رقيقة تكاد أن تتمزق قبل أن تطالها يد بل كان منها ما تشعر أنه سيذوب بمجرد تعريضه لضوء النهار، فلما زاد إلحاحهم تنسج لحم وجهي حياء منهم وخجلا فقررت تصويرها صورا نقية واضحة، لكل كتاب صورة ولكل مخطوط صورة، تقوم مقام الأصل إن طلبها طالب علم ويبقى الأصل في عزّ ومنعة لا تطاله يد.

        لم يقبل مني صاحب المحل بطاقة الصراف فيممت شطر صراف ليس عنا ببعيد، وحملت معي الحقيبة الكبيرة وفيها الصور والأصول حرصا عليها، وعند الصراف وضعت الحقيبة على الأرض قريبا من قدميّ ثم سحبت حاجتي من الريالات وعدت أدراجي نحو محل التصوير، نقدته المبلغ ثم اكتشفت عندها أن الحقيبة قد نسيتها بجوار الصراف فعدت بكل ما في الساقين من ثقل الفاجعة حتى وصلت الصراف، فلم أجد الحقيبة، فتشت حول الصراف يمينا ويسارا فلم أجد، سألت عمال المحطة القريبة دون جدوى.

        جفّ ريقي وتحول لساني إلى قطعة من خشب خشن سيء المذاق وبات فؤادي كفؤاد أم موسى فارغا، صرخت وضربت برأسي في عمود النور وأغرق الدمع وجهي دون بكاء، بلّغتُ دوريات الأمن فسجلوا بلاغي وأوصاف حقيبتي ومحتوياتها، ثم طفقت أتعقب مكاتب الصحف اليومية أكتب فيها اعلانا عن مكافأة بخمسين ألف ريال لمن يجدها ولم يكن عندي خمسة آلاف ريال في واقع الحال وما كنت أعلم حينها كيف سأتدبر أمر خمسين ألفا لو جاءني بالحقيبة فاعل خير عثر عليها وقرأ عن مكافأتي تلك.

محمد ربيع الغامدي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى