المقالات

كلاي في رحيله ..حكاية صورة مع أسطورة

في عام 1991 بعد انتهاء حرب الخليج الثانية التي تمخّضت عن حصار دولي قاس أيبس الضرع ، وأحرق الزرع ، صارت بغداد قبلة أنظار العالم، فبدأت وفود من شخصيّات عامّة تزور العراق للتضامن مع شعب يئنّ تحت وطأة الحصار، وأزمات أخرى عديدة كانت بين النظام العراقي السابق ،والمجتمع الدولي، ومن بين تلك الشخصيّات كان بطل الملاكمة السابق محمّد علي كلاي الذي توفّي – الجمعة -في ولاية أريزونا عن 74 عاما بعد صراع مع داء باركنسون .

عندما سمعت بخبر وصوله بغداد ، وكنت أعمل صحفيّا بجريدة “الجمهوريّة” صمّمت على لقائه ، واجراء حوار مع البطل الذي رفض المشاركة في حرب أمريكا مع فيتنام، فنزع منه اللقب عام 1967م ، وهو الزنجي الذي لم يثنه لون بشرته عن الكفاح لبلوغ أعلى المراتب، فأثبت تفوّقه في ساحات النزال، واعتنق الإسلام، لما وجد فيه من إعلاء لقيمة الإنسان بغضّ النظر عن لونه ، وعرقه، فلا معيار للمسلم سوى تقواه، وغيّر اسمه من “كارسيليوس مارسيلوس كلاي “ليصبح”محمد علي كلاي “، فكان يمثّل بالنسبة لجيلنا قيمة رمزيّة، كبيرة ، حتّى إنّ الجواهري كتب عنه قصيدة،عنوانها”شسعٌ لنعلك كلُ موهبةً”
يقول في مطلعها :

يا مُطعم الدنيا-وقد هُزِلت لحماً بشحمٍ منه مقطوبِ

ومُزيرَها يقظى وغافيةً أطياف بادي البطش مرهوبِ

ياحالباً من ضرعها عسلاً عن غيرِ سُمٍ-غيرَ محلوبِ

ومُرَقصاً منها كما انتفضت نُطفُ الحبابِ بكأسِ شِريبِ

وكما تراقصت الدمى عبثاً مابين تصعيدٍ و تصويبِ
ياطاعناً أعجاس صفوتها بمطي شديدِ الصُلبِ أُلهوبِ

ولم يكن من السهل اقناع رئيس القسم “د. صباح ناهي” كوني أعمل في الصفحات الفنيّة والثقافيّة، ولكنّني وجدت في بطولته لفيلم “ثمن الحريّة” مسوّغا مقبولا للحديث عن تلك التجربة ،وعلاقته بالسينما، وهكذا نجحت بايجاد مسوّغ مقبول ،فانطلقت وكانت معي الصديقة القاصّة هديّة حسين التي كانت متحمّسة أيضا للقائه، وحين وصلنا فندق “الرشيد” حيث كان يقيم وجدنا الفندق غاصّا بمندوبي وسائل الإعلام العربيّة ، والأجنبيّة ، فاعتقدنا إنّهم سبقونا للقاء كلاي ، ولكن كانت أنظارهم تتجّه لبوّابة الفندق الخارجيّة، بينما كان كلاي في غرفته بالفندق نائما !! ولم تطل حيرتي إذ سرعان ماعلمنا أنّ هذا الحشد من الإعلاميين كان بانتظار خروج السويدي “رالف ايكيوس” الرئيس التنفيذي للجنة الخاصة للأمم المتّحدة لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقيّة، الذي كان في اجتماع مع وزير الخارجية العراقية الأسبق “طارق عزيز” لمناقشة ملف نزع أسلحة الدمار التي أثبتت الأيّام إنّها لم تكن سوى ذريعة لإضعاف العراق ،واستمرار الحصار الظالم عليه !!

وبعد حوالي ساعة دخل ايكيوس بوّابة الفندق، فأسرع جيش الإعلاميين للقائه، وأخذ تصريح منه ،التقاط الصور له، لكنّه لم يتوقف ، وظلّ يشقّ طريقه، ويردّ على أسئلة الصحفيين المتعلّقة بنتائج الإجتماع بكلمات قليلة،

فسألتني زميلتي هديّة حسين، وهي ترى تزاحم الإعلاميين، والمصوّرين حول ايكيوس : كم نحتاج من الجهد،والسنوات لنصبح محطّ أنظار وسائل الإعلام بهذا الشكل؟

أجبتها مازحا: نحتاج حركة بسيطة

سألتني: ماهي؟

أجبت : انهضي من مكانك، ووجّهي له لكمة من لكمات كلاي لوجهه،عندها سيتركه مندوبو الوكالات ويوجّهون كاميراتهم نحوك!!

فضحكت ، وقالت : تريد أن أعدم؟ ثم قالت: يبدو إن كلاي سيتأخّر ،سأتركك ،وأذهب ، ثمّ ودّعتني، ومضت ، لتعود في اليوم الثاني لتلتقي به، فيما بقيت ساعات أخرى أنتظره بصحبة مدير أعماله الباكستاني ، الذي كان يتكلّم اللغة العربيّة ،وأخيرا نزلت الأسطورة من عليائها، نزل البطل الذي هيمن على مخيّلتنا ، وفاز بإعجابنا منذ كنّا صغارا ، قبل فوزه بتلك النزالات، نزل الذي ألهم الشعراء ، والأدباء، نزل ولكنّه كان يسير بخطى بطيئة، فقد كان مرض الباركنسون قد هدّ قواه ، وحدذ من حركته ، تذكّرت رشاقته على الحلبة، ورقصاته الشهيرة بين حبالها التي كنّا نراها في نزالاته ، ونشاهدها بمتعة كبيرة، في مطلع السبعينيّات ومنها نزاله الشهير مع جو فريزرفي 1973 الذي وصف بأنّه نزال القرن ،وفاز به، تبع ذلك بفوزه على فورمان ، وحين وصل، لم ينهض لملاقاته سواي، سلّمت عليه بتحيّة الإسلام ، فردّ عليّ ، مدّ لي يدا مرتعشة ،وصافحني، فقال له مرفقه الباكستاني عن هدف لقائي به، فوافق ، ولكن بعد تناوله وجبة الغداء، وهذا ما كان، إذ بعد أن انتهى من وجبة الغداء ناداني، فجلست معه ،وقام بعمليّة الترجمة مرافقه الباكستاني سألته عن الفيلم، وقضايا أخرى، ذكرتها في الحوار الذي نشرته بجريدة”الجمهورية” آنذاك ،واحتفظ بتفاصيله في أرشيفي ببغداد ، وبعد انتهاء الحوار استأذنته لالتقاط صورة للحوار، فأراد أن نمثّل أمام الكاميرا ، وكأنّنا في نزال، وكان قد انضمّ لمراقبة المشهد صديقي المخرج وديع نادر، فطلب منّي كلاي، وكان يحبّ المزاج كثيرا، توجيه لكمة له ، فقبضت أصابعي ،ومددت يدي ضاحكا، فيما حرّك يده باتّجاهي ،نظرت في عينيه الصغيرتين المفتوحتين عن آخرهما، فأحسست بالرعب، وتخيّلت رعب منافسيه الذين خسروا نزالاتهم تحت لكماته الموجعة، ولكن ما طمأنني هو إنّ يده كانت ترتعش ، وكان مرض الباركنسون قد حال دون خسارتي النزال ، فكسبت لقاء سيظلّ في ذاكرتي على امتداد تجربتي مع العمل الصحفي ،برجل وصف بالأسطورة.
عبدالرزّاق الربيعي

مع كلاي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى