نتابع طرفا من الطرائف* و(النَّهْفات) الرمضانية استكمالاً للحلقة السابقة:
ومن أكثرها شيوعا ما يتعلق بالأئمة الرمضانيين والتندّر بإمامتهم، وهم قسمان:
الأول يتجوز كثيرا في الصلاة ولا يطيل خاصة في التراويح، بل يكتفي بقراءة آية آية، وكان عندنا شيخ نسميه (شيخ الطور) رحمه الله، فما أن يقول المصلون بعد الفاتحة: آمين ، حتى يبدأ : والطور ، الله أكبر …
وكتاب مسطور، الله أكبر … وهكذا بخمس دقائق ينهي التراويح!
والثاني يطيل في قراءته لدرجة إرهاق المصلين، ومنهم من يطيل في الركوع والسجود، إذ لا فقهَ لهم ولا علم في الأحكام، بل الجهل سِمَتُهم وسَمْتُهم!
كان لدينا إمام التراويح من هذا الصنف، فلما أنهى صلاته جئْتُـه معاتبا ومعلّماً فأدار لي ظهره، لكني فوجئت بزميل لي كان قد استشاط غضبا بسبب آلام الظهر التي يعانيها، فركض خلف الشيخ وقال له:
بالله عليك قل لي ماذا تقول في الركوع والسجود؟؟؟
قال الشيخ: أقول سبحان الله العظيم وبحمده ثلاث مرات.
قال الدكتور: عجيب، أنا قلت سبحان الله ثلاث مرات، والحمد لله ثلاث مرات، والله أكبر ثلاث مرات، وسبّيْت أباك ثلاث مرات وسبيت اللي بلانا فيك ثلاث مرات، وأنت لم تنتهِ من ركوعك!!! وبهت شيخنا وانبخع !
وهذه المسألة (إطالة التلاوة بالتراويح واطالة الركوع والسجود) قديمة وهي مخالفة للهدي النبوي، إذْ ورد أنَّ من أمَّ الناس فليخفف فإنّ وراءه المريض والضعيف وذا الحاجة. ومن أمتع ما مرّ معي من الطرائف بهذا المقام ما قرأته في (نثر الدر/ ج 7 / الباب الثامن عشر):
قال المتوكل لِعبادة أحد ندمائه(**):
بلغني أنك ضربْتَ إمامَ المسجد، وإن لم تأتِ بعذرٍ أدّبتُك.
قال: يا أمير المؤمنين، مررتُ بمسجد، فأقام المؤذِّنُ، ودخلنا في الصلاة،
فابتدأ الإمام فقرأ الفاتحة، وافتتح سورة البقرة، فقلت: لعله يريد أن يقرأ آياتٍ من هذه السورة، فانتهى إلى آخرها في الركعة الأولى!! ،
ثم قام إلى الثانية، فلم أشك في أنه سيقرأ مع الفاتحة سورة الإخلاص.
فافتتح سورة آل عمران حتى أتمها،
ثم أقبل بوجهه على الناس، وقد كادت الشمس تطلع، فقال: أعيدوا صلاتكم -رحمكم الله- فإني لم أكن على طهارة، فقمتُ إليه وصفعتُه.
فضحك المتوكل من ذلك!
ومن طرائف رمضان ما يتعلق بالجهلة أهل الغفلة، وقد عانيْتُ أنا شخصيا من أحدهم، كان لا يصلي فإذا حلَّ رمضات احتلَّ صاحبنا الصفَّ الأول، وكان يكثر من الأسئلة لي، لعله يريد أن يبرز بين المصلين بالرسوخ، وكان موضوع الدرس مرة عن مفسدات الصيام، وذكرنا معاشرة النساء فتقدّم صاحبنا بسؤاله العتيد:
– هل هذا ينطبق على جميع النساء؟ فقلت له: نعم … فقال:
بلغني أن المرأة إذا كانت بنْتَ عمّ زوجها، فمعاشرتها لا تفسد الصيام!!!
وتحوَّل الدرس الى مجلس طنز وسخرية، ولم يتمكن أحد من إقناعه بخطئه!
ومن أبرز تلك الطرائف الرمضانية أن بعضاً من الشباب المسلم المتفلّت كانوا يمضون سحابة يومهم في القرى المسيحية، حيث يدخنون ويتناولون الطعام ويعودون الى قُراهم مساء، وقد انتهت فترة الصيام.
ومن ذلك ما رواه لي الأستاذ الأديب المهندس مفلح بُنَيَّان الحريري:
يروى أنَّ أحدهم واسمه منصور الحسن من قرية علما في حوران، كان يسير معلما الى الحراك ويشرب الدخان في نهار رمضان فرآه بدوي يعرفه سابقا، قال له: ألسْتَ انت منصور الحسن من علما؟؟
قال له: انت غلطان أنا إلياس الخبصة من رخم !!!! أنكر حاله وزعم أنه نصراني من بلدة رخم وهي قرية مسيحية مشهورة بالعلم والكرم شرق أذرعات.
ومن هذه الطرائف:
اتصلت عجوز فقيرة على محطة إذاعية في شهر رمضان؛ طلباً للمساعدة؛
وكان أحد الملحدين يستمع لهذا البرنامج أيضاً، فقرر أن يسخر من العجوز بطريقته ..
وبعد أن حصل على عنوانها، دعا سكرتيرته، وأمرها بشراء كمية كبيرة من المواد الغذائية وإرسالها للعجوز، وأوصاها لو سألت العجوز عن من أرسل هذه المساعدة، قال: قولي لها :” أرسلها الشيطان “.
وعندما وصلت السكرتيرة لبيت العجوز، كانت العجوز سعيدة جداً ، وممتنة كثيراً بسبب المساعدة التي تسلمتها ، وبدأت بوضع الطعام داخل منزلها الصغير.
فما كان من السكرتيرة إلا أن سألتها: ألا تريدين أن تعرفـي من الذي أرسل المساعدة ؟؟
فأجابت العجوز: لا يا نور عيني، أنا لا أهتم بهذا، لأنه عندما يُقَـدِّر الله أمراً،
يُسخّر حتى الشياطين لتنفيذه!!!
ومن طرائف رمضان وفي حوران أيضا هذه القصة التي حصلت ايام الدولة العثمانية:
كان في منطقة بحوران جنوب دمشق حوالي خمسة عشر كيلومتراً، مدينة اسمها خان دنون يوجد فيها مخفر تركي مهمته امنية وجمركية للقادمين من الجنوب الى دمشق ( شام شريف) والعكس، وفي شهر رمضان المبارك كان رجال الشرطة يستغلون المسافرين الجمّالة بأي أسلوب حتى لو كان رخيصا وشائنا.
كان بجانب المخفر جيفة حصان غير أصيل نافق، وهو المعروف محلياً باسم ال( قديش). وكان يأتي من الجنوب ( الجمّالة )، ينقلون تجارتهم على الجِمال فيقوم عناصر المخفر باعتراضهم ووضع خيارين أمامهم، إما أن تقوموا بسحب الجيفة الى خلف التلة وكانت تبتعد حوالي خمسمئة متر، أو ان تدفعوا عن كل حمل جمل مبلغ ( ربع ليرة مجيدي)، فيفضل الجمالة دفع المبلغ على ان يقوموا بهذه المهمة الصعبة وخاصة أنهم صائمون، وظل المخفر على هذه الحالة يسترزق تحت راية العَلَم الذي يرفرف على المخفر والذي شرع لهم هذا التصرف ، حتى جاء ( قفر) مجموعة جمالة من قرية الصَّورة الحورانية المعروفة، وقام مسؤول المخفر بإعتراضهم وتقديم الخيار لهم ( إما ، أو ) فانتفض جمّالة الصورة وربطوا الجيفة وقالو لعناصر المخفر سنقوم بسحب الجيفة إلى ما بعد التلة، وماذا تريدون غير ذلك يا سادة؟ إنَّ رمضان يزيدنا قوة إلى قوتنا فنتمكن من شحط الجيفة إلى أبعد المسافات !!!
فسارع عناصر المخفر إلى منعهم من هذا التصرف وقالوا لهم:
أتركو الجيفة (القديش) بمكانها ، وانصرفوا عنا ولا نريد خدماتكم ، وتركوهم دون أن يدفعوا اي مبلغ لأنهم وضعوا بحسبانهم انهم لن يستفيدوا شيئاً بعد جرِّه وسوف يفقدون حجة طلب النقود وينقطع الدخل الذي يتربحون منه، ومن ذلك اليوم والناس في حوران تضرب المثل بذكاء أهل الصَّوَرة، ويمازحهم أهل الصَّورة فيقولون:
بل هي بركات الصيام وشهر رمضان الفضيل. بركات قول الله تعالى:
((لعلهم يتقون)) جزء الآية 187 من سورة البقرة.
وصدق الشاعر إذ يقول:
صقل الصيامُ نفوسَهم وقلوبَهم *** فغدوا حديثَ الدَّهْـرِ والأحقاب ِ
صاموا عن الدنيا وإغراءاتِها *** صاموا عن الشهواتِ والآراب ِ
(*)- الطرفة بالأصل، قال فيها ابن منظور:
الطرْفُ إطْباقُ الجَفْنِ على الجفْن. وقال ابن سيده: طَرَفَ يَطْرِفُ طَرْفاً: لَحَظَ، وقيل: حَرَّكَ شُفْره ونَظَرَ.
والطرْفُ تحريك الجُفُون في النظر. يقال: شَخَصَ بصرُه فما يَطْرِفُ.
وطرفَ البصرُ نفسُه يَطْرِفُ وطَرَفَه يَطرِفُه وطَرَّفه كلاهما إذا أَصاب طرْفَه، والاسم الطُّرْفةُ. أما استعمال العرب للطرفة بمعنى النكتة المستملحة الماتعة التي تلذُّها الأسماع فهي من قولهم: وأَطْرفت فلاناً شيئاً أَي أَعطيته شيئاً لم يَمْلِك مثله فأَعجبه، والاسم الطُّرفةُ؛ قال بعض اللُّصوص بعد أَن تابَ:
قُلْ للُّصُوص بَني اللَّخْناء يَحْتَسِبُوا*** بُرَّ العِراق، ويَنْسَوْا طُرْفةَ اليَمنِ
وشيء طَريفٌ: طَيِّب غريب يكون؛ عن ابن الأَعرابي، قال: وقال خالد بن صفوان خيرُ الكلامِ ما طَرُفَتْ معانيه، وشَرُفَت مَبانِيه، والتَذّه آذانُ سامعِيه.
وأَطْرَفَ فلان إذا جاء بطُرْفةٍ. واسْتَطرَف الشيءَ أَي عَدَّه طَريفاً.
(**)عبادة المخنث من ندماء الخليفة المتوكل، جاء في الإكمال لابن ماكولا العجلي : « ٦ / ٢٨ » : « وأما عَبَّادَة بفتح العين وتشديد الباء ، فهوعبادة المخنث ، كان ينادم المتوكل ، له نوادر ومضاحيك ».وقال بعضهم عُبادة بالتخفيف.
وفي تاريخ الذهبي « ١٨ / ٣٠٤ » : « قال البخاري: مات في شوال سنة خمسين ومئتين عَبَّادة المخنث ».
وفي كتاب الديارات « ١ / ٤٤ » : « قال المتوكل لعَبَّادة ذات يوم : دع التخنث حتى أزوجك. قال : أنت خليفة أودلَّالة؟ وله أخبار كثيرة في كتب التراث والأدب.