المقالات

بريطانيا تتخذ القرار!

يضرب زلزال التباين الاستراتيجي أوروبا العجوز؛ لتخرج بريطانيا عن وحدة الاتحاد وعضوية الأوروبيين، في إعلانٍ صارخٍ لها، وصادمٍ لدول الخصاصة، سالكةٌ بهذا الخروج مسلكًا بعيدًا عن سياسة التكتلات غير المتكافئة. والحق أنها بذلت قبل التحول الاستراتيجي عددًا من التكتيكات المرحلية، والتي لم تجد حلًا في منظومة الدول القاصرة، وليس من شأني الآن أن اتحدث عن العصابة الأوروبية ومآلاتها، ولكن الذي أود قوله عددًا من الومضات : ١- العالم اليوم ينتهج سياسةً جديدةً تختلف في البنيوية التكوينية والعقلية السياسية عن السياسات المتأثرة بما بعد الحربين العالميتين، فبعد أن كانت تتوافق في الاستراتيجيات والعقلية الفيدرالية، وتتباين في القدرات والثروات، يوازن بينها نُظمٌ تكتيكية ذاتية وفق سيادتها وحجمها في المنظومة الاتحادية، تحولت اليوم إلى سياسة” القيمة المضافة”، فلا قيمة اليوم لأي تكتلٍ أو ائتلاف أو اتحادٍ مالم يكن متكامل العضوية، بمعنى أن تكون الدولة العضو تُمثل قيمة مضافة للأخرى، وليس في المجموع جزءٌ يعيش على حساب جزءٍ آخر . وفي هذا درس لكل العالم بكل مكوناته السياسية والحزبية والشعبية، بل وحتى الفنية والثقافية، بأن الاستقلال في القيمة يعني الدوام في المشهد والتأثير في الموازنات.

٢- قياس القيم اليوم، ليس هو نفس القياس بالأمس، فعندما كانت القيمة المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى تعني رقمًا مغريًا لمزيدٍ من الحلفاء والحماية، صارت اليوم تعني تبديد الغنايم وكثرة الشركاء، ومزيدٍ من التبعات السياسية والاقتصادية لا طائل من ورائها. وهذا مما لاشك فيه تحول في حسابات القوى في ظل الطمع المتزايد، وفرص المقايضات المتعددة، والموازنات الحديثة، التي ليس منها -قطعًا- الدول العالة على غيرها، والحكومات المفتقرة للرعاية والحماية. وفي هذا درس لكل العالم اليوم، وبكل مكوناته المختلفة، أن الحسابات النرجسية المادية تعرّي الحقائق في وقتٍ لا حول فيه ولا قوة لتلك الدول البائسة الفقيرة.

٣- لم تخرج بريطانيا من الاستراتيجية الأوروبية العتيقة إلا بعد محاولات تكتيكية جريئة على شتى الأصعدة والمستويات الاقتصادية والسياسية، ولكنها وجدت مستقبلها يقتضي مزيدًا من الجرأة والشجاعة في اتخاذ القرار، فعمدت بكل قدرة واقتدار على قرارات من شأنها إحداث التحول في الاستراتيجية الكلية ضاربًة بأقوى صنمٍ دوليٍ في عالمنا اليوم عرض الحائط . وفي هذا درس للعرب والمسلمين، ولكل المكونات العربية والإسلامية، أن الذي لا يقوى على تحولات في التشكلات والخطوات الاستباقية التكتيكية، وتحديث المضامين الدستورية، فليس لدية الأهلية في عملٍ يرقى إلى الاستراتيجيات الكلية، والنُظم الجوهرية. وأخيرًا .. بعد أن رأينا الجرأة البريطانية في الخروج عن النسق المتعارض ومصالحها القومية، وإعادتها لتقييم مقدراتها الوطنية وفق فرص اليوم التي لم تولد بالأمس، وضمن تبعات اليوم التي كانت في عِداد فرص الأمس .. لتتمثل لنا نموذجًا بارعًا في التحول الاستراتيجي، وفق إرادة مختارة . وبعد أن رأينا الجرأة النهضوية التونسية في الخروج عن العقلية الحزبية المتعارضة ومصالحها الحزبية والمصادمة للمآلات السياسية، وإعادتها للتقييم الدستوري الحزبي، وفق معطيات الواقع، ومتطلبات العصر .. لتتمثل لنا نموذجًا بارعًا في التحول التكتيكي الحزبي المعاصر، وفق إرادة مختارة.

فماذا عن البقية ؟! وهل نحن ممن يملك الإرادة والاختيار ؟! أم نحن مازلنا تحت قيادة فرض الواقع ؟! والتحولات الجبرية ؟!

خالد بن سفير القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى