المقالات

نَـهْـفـات وأخواتها في الجذور

استخدمنا مصطلح النهفة والنهفات في طرائفنا الجذورية بشهر رمضان، وسألني عن مدى فصاحتها بعض المهتمين والمتابعين. قلنا لحضراتهم:

يستخدم الشاميون (عموم بلاد الشام) عبارة النَّهْـفـات ، جمعا لمفرد (نهفة)، بمعنى الأخبار والنوادر المضحكة، ولكن هل في الجذور نهفات؟؟؟

بالبحث المعجمي:

معنى نهف في لسان العرب أَهمله الليث وقال ابن الأَعرابي النَّهْفُ التَّحَيُّر، وأعاد ذلك صاحب التاج: النَّهْفُ أَهمَلَه اللَّيْثُ وقال الجَوْهَرِيُّ عن ابن الأعرابي:

 هو التَّحَيُّرُ كما في اللِّسانِ والعُبابِ وأَغْفَلَه في التَّكْمِلَةِ . إلا أنه أحال إلى (فصل الواو مع الفاءِ/ و هـ ف) وهذا يبعد نجعة البحث وينأى بنا عن المراد، فالوهف إشارة إلى لقب كنسي عند النصارى.

(الوَاهِفُ): سادن الكنيسة وقيِّمها، (والوِهَافَةُ): عمل سادن الكنيسة وقيِّمها. وأجزم أنّ هذا لا يمتُّ إلى لغة العرب بأيِّ صلة، فالمصطلحات النصرانية أغلبها غير عربي، والوَهْفُ في لسان العرب مثلُ الوَرْفِ وهو اهتزاز النبت وشدّة خُضرته، وهَف النبتُ يَهِف وَهْفاً ووَهِيفاً اخضرّ وأَورق واهتز مثل ورَف ورْفاً يقال يَهِفُ ويَرِفُ وَهِيفاً ووَرِيفاً وأَوْهف لك الشيء أَشرفَ وسُنَّته الوِهَافة.

ونلاحظ ألا علاقة صوتية ولا دلالية أو جذورية بين(نهف) و(وهف) أبدا.

وأجتهدُ فأقول إن النهفة أتت الى لهجاتنا العامية من الجذر الثلاثي (هـ ن ف)، وتعرّضت الى القلب وهو كثير في العامية إذ يقدمون ويؤخرون في الحروف:

حفر ————- فحر

العقل ———–القعل

و(أﻧــﺎرب) ﻓــﻲ (أراﻧــب) و (ﺟــواز) ﻓــﻲ (زواج) و. (أﻫﺑل) ﻓﻲ (أﺑﻠﻪ).

فما المانع أن تكون على المنوال نفسه:

هنف ———- نهف

وسبب الاستخدام للدلالة على الطرفة والضحكة والابتسامة في كلمة(نهفة) هو ما تحمله كلمة، أو جذر (هنف) من دلالات تخدم المعنى المقصود.

جاء في اللسان:

الإهْنافُ ضَحِكٌ فيه فُتُور كَضَحِك المستهزئ وكذلك المُهانَفة والتَهانُف قال الكميت:

 مُهَفْهَفَةُ الكَشْحَينِ بَيْضاءُ كاعِبُ *** تُهــانِفُ للجُهَّــالِ مِنَّــا وتَلْعَـبُ

قال ابن بري: ومثله قول الآخر:

 إذا هُنَّ فَصَّلْن الحَدِيثَ لأَهْلِه ***  حَدِيث الرَّنــا فَصَّلْنَه بالتَّهانُف

وقال آخر: وهُنَّ في تَهانُفٍ وفي قَهٍ.

وقال ابن سيده: الهُنُوف والهِنافُ ضَحِك فوق التَّبَسم. وخص بعضهم به ضحك النساء وتهانَفَ به تَضاحَك، قال الفرزدق:

 من اللُّفِّ أَفْخاذاً تَهانَفُ للصِّبا*** إذا أَقْبَلَتْ كانت لَطِيفاً هَضِيمُها

 وقيل تَهانَفَ به تَضاحَكَ وتعَجَّب (عن ثعلب) وقيل: هو الضحِكُ الخَفِيُّ، وقال الليث الهنافُ مُهانَفةُ الجَوارِي بالضحك وهو التبسم وأَنشد:

 تَغُضُّ الجُفونَ على رِسْلِها ***بحُسْنِ الهِنافِ وخَونِ النَّظَرْ

والمُهانَفَةُ المُلاعَبة أَيضاً قيل أَقبل فلان مُهْنِفاً أَي مُسْرعاً لينال ما عندي، قال وفي نسخة من كتاب الكامل للمبرد التَّهانُف الضحك بالسُّخْرية والمُهانَفة المُلاعبة وأَهْنَف الصبيُّ إهنافاً مثل الإجْهاش وهو التهيّؤ للبكاء والتهنُّف البكاء وأَنشد لعَنْتَرة بن الأَخْرس:

تَكُفُّ وتَسْتَبْقِي حَيَاءً وهَيْبَةً *** لنا ثُم يَعْلُو صَوْتُها بالتهنُّفِ

 وأَهنَف الصبيُّ وتَهانفَ تَهيّأَ للبكاء.قلنا: والتهانف وُضِع لتهيؤ الطفل للبكاء وضحكات وملاعبة الآخرين، بجامع الصوت الذي يصدر في الحالتين.

لاحظ: (هـَ   ـنـَ  ـفَـ ) والتناسق الفيزيائي بين صوت الجذر وما يعبِّر عنه!!!

وقال الزبيدي في التاج:

الإِهْنافُ خاصٌّ بالنِّساءِ ولا يُوصَفَ به الرِّجالُ قاله أَبو لَيْلَى، وهو ضَحِكٌ في فُتُورٍ كضَحِكِ المُسْتَهْزِيِء كالمُهانَفَةِ والتَّهانُفِ.

وينتشر في البلاد الشامية وخاصة البادية، وفي منطقة الخليج العربي العتيد اسم (الهنوف)، يطلقونه على بناتهم، وأعرف شاعرة أديبة تحمل هذا الاسم.

أما الطرفة (بضم الطاء وإسكان الراء، ثم فاء مفتوحة) فهي من الجذر الثلاثي (ط ر ف)، وتطلق بالمعنى الآنف نفسه، والطرفة بالأصل، قال فيها ابن منظور:

الطرْفُ إطْباقُ الجَفْنِ على الجفْن. وقال ابن سيده: طَرَفَ يَطْرِفُ طَرْفاً: لَحَظَ، وقيل: حَرَّكَ شُفْره ونَظَرَ.

والطرْفُ تحريك الجُفُون في النظر. يقال: شَخَصَ بصرُه فما يَطْرِفُ.

وطرفَ البصرُ نفسُه يَطْرِفُ وطَرَفَه يَطرِفُه وطَرَّفه كلاهما إذا أَصاب طرْفَه، والاسم الطُّرْفةُ. أما استعمال العرب للطرفة بمعنى النهفة السابق، أو النكتة المستملحة الماتعة التي تلذُّها الأسماع فهي من قولهم: وأَطْرفت فلاناً شيئاً أَي أَعطيته شيئاً لم يَمْلِك مثله فأَعجبه، والاسم الطُّرفةُ؛ قال بعض اللُّصوص بعد أَن تابَ:

قُلْ للُّصُوص بَني اللَّخْناء يَحْتَسِبُوا*** بُرَّ العِراق، ويَنْسَوْا طُرْفةَ اليَمنِ

وشيء طَريفٌ: طَيِّب غريب يكون؛ عن ابن الأَعرابي، قال: وقال خالد بن صفوان خيرُ الكلامِ ما طَرُفَتْ معانيه، وشَرُفَت مَبانِيه، والتَذّه آذانُ سامعِيه.

وأَطْرَفَ فلان إذا جاء بطُرْفةٍ. واسْتَطرَف الشيءَ أَي عَدَّه طَريفاً.

والنُّكْتَةُ التي تطلق أيضا بالمعنى نفسه هي في الأصل اسم للنقير الذي في ظهر النواة كأَنَّ ذلك الموضعَ نُقِرَ منها. وهي المسماة القِطْمِيرُ والقطمار والفُوفة التي في النواة، وهي القِشْرة الدقيقة التي على النواة بين النواة والتمر.

والجذر الثلاثي (ن ك ت) قال فيه الليث: النَّكْتُ أَن تَنْكُتَ بقَضيبٍ في الأَرْضِ، فتُؤَثِّرَ بطَرَفهِ فيها.

وفي الحديث الشريف: فَجَعَلَ يَنْكُتُ بقَضيبٍ أَي يضرب الأَرض بطَرَفه. وقال ابن سيده: النَّكْتُ قَرْعُكَ الأَرضَ بعُود أَو بإِصْبَع (وهو ما يؤثِّر تأثيرا يسيرا).

وجاء في مقاييس اللغة لابن فارس:

النون والكاف والتاء أصلٌ واحد يدلُّ على تأثيرٍ يسيرٍ في الشيء* كالنُّكتة ونحوِها ونكت في الأرض بقَضِيبهِ ينكُت، إذا أثَّر فيها.

وكلُّ نُقطةٍ نُكْتَة. ومن الباب رُطَبةٌ منَكِّتة: بدأ الإرطاب فيها، كأنَّ ذلك كالنُّقَط.

والنّاكِت بالبَعير: شِبه الحازِّ، وهو أنْ ينكُت مِرْفَقُه حرفَ كِركِرته. ومما يقاس على هذا قولهم: نكَتُّه، إذا ألقيتَه على رأسه فانتكَتَ، ولعل ذاك من أثرٍ يؤثِّره في الأرض. ويقول الأدباء في مؤلفاتهم إذا ذكروا فائدة لغوية أو نحوية أو شيئا من هذا القبيل: إليكم هذه النكتة، وكأنها شيء يخالف سياق الكلام رغم أنَّ السياق هو ما ذكّرهم بها، فبدت كالنقطة أو الأثر الواضح في سياق الحديث!

وأرى أنَّ استعمال النكتة بمعنى النهفة أوالطرفة غير مستقيم وهو شيءٌ مستحدث

ولم تألفه العرب ولم تستعمله في لهجاتها.

ونرى أن نطلق عليه اسم المُلَح، أو المستملح، وقد اعترض علينا أحد الأدباء في اقتراحنا هذا، بحجة أنَّ المستملح كانت تطلقه العرب على حديث الكذب، فرددْتُ عليه بما قاله الليث* عن الخرافة: هي حديث مستملح كذب. فدلَّ كلامه أنّ الحديث المستملح قد يكون كذبا وقد يكون صادقا ً. ويبقى اطلاق النكت على الفوائد اللغوية والنحوية، فالملح والنوادر والنهفات (هنفات) والطرائف تؤدي المعنى، مع الفوارق الجذورية:

الملح ما كان فيه إثارة، والنوادر ما كان مستغربا ليس له نظير معتاد، والطرائف ما التذّته الأسماع وأحبّت سماعه مرة بعد مرة، ولا مكان هنا للنكات (جمع نكتة) جذوريا في المقام نفسه، فهي أمر خاص بمقام مخصوص كما أسلفنا، أما إنْ أردنا المضحكات من الملح فأفضل المصطلحات والمسميات الجذورية هي النهفات، مع استحضار عملية القلب للحروف التي أشرنا إليها في صدر المقال. هذا والله أعلم.

——————————————————————

*الليث ابن المظفر بن نصر بن سيّار وقيل الليث بن رافع بن نصر بن سيار صاحب الخليل بن أحمد – إمام اللغة الحجة المعروف ، وإمام علم العروض – اللغوي، وقد نسب له بعض المؤرخين واللغوين كتاب العين له، وقيل صنفه الخليل بن أحمد واهداه له في نسخة فريده واحترق الكتاب وكان قد حفظ نصفه فكتبه وأكمل الباقي بعد وفاة الخليل بعد أن جمع لذلك مجموعة من الأدباء والشعراء ، وفي قصة حرق معجم العين يقال: كانت ابنة عم الليث تحته، فاشترى جارية نفيسة بمال جليل، فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة فقالت: “والله لأغيظنّه ولا أبقي غاية إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي به، ولكني أراه مكبا ليله ونهاره على هذا الدفتر، والله لأفجعنّه به”، فأخذت الكتاب وأضرمت نارا وألقته فيها، وأقبل الليث إلى منزله ودخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب، فصاح بخدمه وسألهم عن الكتاب فقالوا: “أخذته الحرة”، فبادر إليها وقد علم من أين أتي، فلما دخل عليها ضحك في وجهها وقال لها: “ردّي الكتاب فقد وهبت لك الجارية وحرّمتها على نفسي”، وكانت غضبى، فأخذت بيده وأدخلته البيت الذي أحرقته فيه، وفيه رماده، فسقط في يد الليث، فكتب نصفه من حفظه وجمع على الباقي أدباء زمانه وقال لهم: “مثّلوا عليه واجتهدوا”، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس، فهو ليس من تصنيف الخليل ولا يشقّ غباره، وكان الخليل قد مات.  وقيل غير ذلك والله تعالى أعلم.

·       وأخبار الليث في: معجم الأدباء، لياقوت الحموي، ج2 ص 283

·       والمزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ص 62

·       وتاج العروس، الزبيدي، ج 1 ص 64

 لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين; المحقق: شيخنا الجليل عبد الفتاح أبو غدة، ج 4

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى