لم تهدأ موجة الترقب، والتوجس منذ بدء الانقلاب على ديموقراطية تركيا والذي كان حظه الفشل الذريع، ليتحول المشهد تباعًا إلى سلسلة من الاعتقالات، والإقالات التي طالت صفوف الجيش، وأجهزة الأمن، والمرافق العدلية، إلى أروقة التعليم على اختلاف درجاتها، بل حتى طالت الإجهزة الإعلامية. ليكون المشهد أشبه بتصفية سياسية منظمة للقضاء على قوى ما يُسمى بالكيان الموازي. الكثير في عالمنا العربي والإسلامي البائس إن لم يكن الكل من المحسوبين على التيارات الإسلامية يممت بأفئدتها وهرعت نحو تركيا تلك الدولة التي رسخت أقدامها على مقومات العلمانية، وعلى أسسها، وبروتوكولاتها ليست الغرابة هنا بقدر ماهي في النقد المسبق من قبل تلك الجماعات الإسلامية وخصوصًا الأصولية منها لمبادئ العلمانية والتي طالما ألفت فيها تلك التيارات المؤلفات، وألقت المحاضرات وعقدت الندوات، في عدم شرعية تحكيم منظومة العلمانية وقوانينها وأغلبها كفرت معتنقيها والداعين إليها كأساس لدولة القانون الحضاري. هذا هو الجانب المتألم والمراقب عن كثب للعاصمة إسطنبول في عبائته الإسلامية والمناوئ في مبادئه لصبغتة العلمانية سلبًا.
ويقف على النقيض من تلك التوجهات من كانوا في أوج ابتهاجهم وفرحهم لحظة إعلان نبأ الانقلاب أنهم المنادون بالعلمانية وفلسفتها في البلاد العربية والإسلامية والمراهنون على أنها الضمانة التي تحمل في طياتها الحلول الناجحة لجميع مشاكلنا في الوطن العربي. إلا أنها تبدلت مبادئهم وأجنداتهم وتمردوا على ثقافتهم، وقيمهم، وشعاراتهم فكانوا مؤيدين لذلك الانقلاب بشكل ظاهر يدعو للغرابة بين ماينادون به في أدبياتهم وأطروحاتهم وبين تآييدهم لمجريات الانقلاب العسكري وقتها حتى صدمهم فشل الانقلاب لاحقًا. وأمام تلك المتناقضات بين الجانبين يظهر للمتابع وصاحب الاطلاع أزمة واضحة المعالم بين مايتبناه بعض أصحاب تلك الأطروحات ويدعون إليه بالقول وبين الفعل سرعان مايغيره الطارئ الذي ينشأ على مسرح الحدث..وكيف يتخلى المرء عن كل مايتبناه ويعتقده في مشهدٍ تعلوه البلاهة والسذاجة المدهشة. تركيا دولة لها كيانها وسيادتها ولديها مصالحها الذاتية التي لايمكن أن تفرط فيها أوتتنازل عنها بأي حال من الأحوال بعيدًا عن الشخوص القيادية في الهرم السياسي، وهذا يتضح جليًا وقت خروج الجماهير لأجل تلك المصالح، والمكتسبات دون سواها وحتى لاتفرط في استقراراها، وأمنها ووحدتها حتى الأحزاب المعارضة كانت يدًا واحدة في سبيل وأد ذلك الانقلاب العسكري وإسقاطه في ساعات وجيزة جدًا.
أما نحن فيبقى لنا التعارك والمطارحات الفكرية السقيمة التي تقودنا في نهاية المطاف إلى الطعن في بعضنا، والتلاسن المشين. فضلاً عن التخوين والاستعداء وجلب الكراهية وكأننا نتعمد النخر في سطح سفينتا العابرة في بحر السياسية المتلاطم والهائج بعواصفة العاتية..
عبدالله محمد البارقي