حياة في مشهد
–كلاكيت –
– اللقطة الأخيرة-
(إلى روح الصديق ناصر خلف)
هي الأيام تقاسمنا..
سألوه ؟
قال: لم يسقط، والغد يوسوس يُخفي مثقلا !
أحسَ بألمٍ، لم يبقْ من النهار إلا قدرٍ.
لست ُأدري أي موعد ينتظره، ليرسو أخيرا..؟
في أول المشهد،
صورة مخيفة ! يمد ذراعيه إلى السماء بأقدام تمسك بالأرض،
الشمس وهنت، دنت نحو الغروب، لا شيء بعد الأصيل سوى، أجنحة الأسئلة المهتزة، وعشرات الكلمات تتشابه في مجمل غوامضها،
عينه ذاك الشجن الأبيض يتكرر،
يكابد – ناصر- والألم يتكرر.
ترنو عيناه و أنامله تبحث؛ تتحسس الوجع، متسائلا، والسنون تقتات من حدقتيه
(يضحك بتهكم ) :
حين تنتهي أيامي (يا عايدة ) سيرث أولادي كماً من الأوراق الملونة الملوثة بالحبر الفاشل.
أجيب :
لا ادري عن أي موعد تتكلم ؟
المشهد يشير إلى الصمت، و ليله الغافي على جرف هار، يحلم ناصر،
ترسو شجونه بجسد واهن، لم ينبس كثيرا كعادته،
بوجدٍ يستحث: إلى أي هدف يسعى قاربي ؟
استبصرت الكثير في قليل من الوقت، أراه عن قربٍ مثقلا ثانية حتى تهدل منه الجسد،
أبصر نهاره من خلف جدران تشففن بفعل الشعور، ومن حوله تدور ذاكرته المحشوة بالنسيان، ما زال يشير بأصبعه إلى العبارة، حتى تصير إلى رماد..
يعاود الكتابة، يكرس كله إلى شئ، وخاويا من أيما شئ !
أشير إلى أوراقه لأشد من عزم أيامه.
: لك أنامل ثائرة.
يشير إلى وجوده.
: هيئات .. أشكل بها جسدي
يبتسما، ابتسمنا..
: سأذهب إلى المشفى لأحضر نتائج فحوص الإيكو.
ذهب،
أعود، أطيل النظر لأبصر أوراقه المفتوحة في وهدة الملل، أطالع علامات راقصة تشير إلى لغة سطور مقصودة في ذاته، هيئات أشكال ونثار من الأوراق على الجدار، و .. صورا لا تشبه الأحلام، كلها تأتلف لتصير كلا واحدا،
نصف التفاحة (حسرة الطفولة) ! هكذا كان يوضح لي عن تفاحاته في رسومٍ نعرفها جميعنا نحن اصدقاؤه.
والخيول البيضاء الجامحة بمقاديم سوداء،
أحيانا تصطف خيوله بقرب السنديان تلك الأحلام المسموح بها، والطيور النسور وسط كرنفال لوني مائل إلى العودة، تعشش على سياجه العتيق،
قرب الموعد تنتظر خيوله فتصهل
يصل المشهد إلى الصمت، إلى بداية الحياة الأخيرة.
سما الفنان وهو يدلي بشهادته، وأيضا..
أوروك بعيون سومرية تأتلق، يسعى إليها ادم يقاسمها نصف التفاحة و
قصائدا لسعاد الصباح.
تحتضنه الشمس في مرافئ الشعر، ينبهر، يشدو مرددا فلا خيار أمامه، كان شغوفا بتلك المقاطع؛
: ” كن صديقي “
،يترامى مغتربا يصنع لنفسه جناحين يصعد بهما مكانا عليا، يحمل حلمه بين يديه وأغنية ماجدة الرومي لا تفارقه يسأل : كن صديقي
لم يطر،
يبتلعُ صمتَ ما يشتهي ( واهناً )
يلثم ظله، يسحب البياض َبما تبقى من عتمة .
يخفق بضربات غير منتظمة، لا يأبه لاضطرابات قلبه لأنه كان يتفجر في دفقه إنسانا يُصَيِّر الخارطة من خلال الأصدقاء، بطقوس إنسانية وكل الألوان البيضاء
كان اعلم الناس بالحزن، و أرواهم للألم الذي حاوره بصوت عال
– يقطع المشهد –
يرسم بالحبر الأسود كل الألوان
والبياض يتكرر لسبب بسيط ،لأنه بنشوة يعتنق كل الأديان أللونية ، كان إنسانا في كل مفاصل اليوم .
سهواً يبتعد في زمن لحظة، ليكون. لازال رغم كل الألم قادرا على إشعال الزمن.
– يقطع المشهد عاشراً-
يبتكرُ الجمال ليختصره في أنوثة الروح
يرسم ملامحها الجميلة لأنه يؤمن بجمال المرأة ومدارات ثقافتها
هي نفسها،
نفس الوجه يتكرر عبر وهج الحس عنده
مرة تلو المرة
البور تريه نفسه !
امرأة بيضاء تملأ أشرعته، تضوع منها رائحة الحناء
وربما،
سمراء حد العشق (من طينة الأقبية المعتمة) ينتصر بها على قلبه الطعين..
يشير بحبره ليقاطع العوز، وسنين تشمرت تحت خطواته في شوارع المدينة (كركوك)،
يكسر الحصار؛ لينصرها في شعاب أبي طالب
تربكه الساعات الأولى من اليوم، يبتعد على منضدته، يدون رغباته الواهنة
مهاجرا يغترب داخل زمنه، بالقرب من الجميع
يتيقن ساعات النهار القصيرة وهي تنبؤه بحلول الليل
لا يأبه ..
تتعبه الساعات، فيقوى
يتعبه قلبه المريض، وتفسخ الأرصفة تحت ترجله اليومي بحذاء قديم مصاب برغبة السير.. يتعبه كل شئ غير جميل
يتعاط الساعات في تحد لا يحده ( كغيمة تعيد نفسها للبحر)
– يكد حتى هزل ـ
يركض بقميص وحيد
يبتعد أمامنا في عزلة على طاولة الوطن
يدون
يدون
حتى يخلو المكان إلا من حس الأوراق التي تهمس من غير تصريح منه
: نحن ثورة.
يثور، يسور الوطن بهمة الرجال فلا يستطيع اختراقه انس ولا جان
يتجمع، ينهم النصوص، يخطط لينتهي منتصرا في زمن الافتقار
يتجشم المسير،
يتحدث أخيرا بصوت عالٍ ولكن،
عن ما يحلم به الآخرون دون حلمه، فالقلم الواشي لم يتسع
تقنعه الدموع المفترضة .
دنوت اقلب -انأ صديقته- في صفحات الجريدة
لم أجد في تلك الأوراق حلما لناصر! فقط توقيعه وحس قد أخفى نبرته في تلك المشاهد اليقظة،
ماذا سوى نقطة كبيرة بلا جدوى يؤسس منها البدايات في مكان ضيق
يمزق المخزون ، يمتد صمتا حتى يكتفي،
يتكلم !!
…
أتذكر وجهه القبلي أتذكره وهو مختبئا وقد تدانى بعضه من بعضه، التف كاللبلاب على مقعد بال كان قد هرم هو الآخر. وقد استحال ليله شتاء ببياض غيمه يصنف الكلمات
أتذكره والربيع مازال مختبئا في سنينه العتيقة، حتى صوت طرق الباب
( دائما لا احد ) !
لا صوت
على مدى النهار،يكتظ وحيدا يغلق الباب، لو استطاع أن يفتحها؟
لكنه يصر أن يبقى رجلا بقلب آخر.
في حقيبته الزرقاء ثمة أوراق، لا شئ سوى أوراق تمتلك حريتها
يرثي فيها الساحات والشوارع ،وحديقة المدينة المهجورة هناك تحت الجسر وقرب المصرف
وتارة ملصقات الانتخابات المريضة، تلك التي تضيع من جمال المدينة فيحزن لذلك معلنا في عموده الأسبوعي- صدى الألوان- رفضه أمام المسؤولين.
يطير بألوان في بياض الفكرة ليكن في دجى الضياء طليقا ومثقلا بالحزن.
– يقطع المشهد الأخير –
السرير يختط مسامير نعش زمانه
تتحقق رؤاه
: قلبي يدق
: قلبي يتووو.. قف..
يحمله (غيلان) فا لمشفى بعيد.
يحتضر قريبا
تعثرت عجلات العربة فالطريق سحيق، يحتضر قريبا،
دنا من ولده وأنفاسه تكاد تنقطع
لولا..
: غيلان بني عزيزي، (فوا لهف قلبي عليك)
غيلان: انتظم أيها القلب أرجوك .. أبي لا…
يربط ولده دقات قلبه بتلك اللحظات، فالمشفى قصي
يحتضر ناصر،
تبرد أوصاله،عبثا يخفق القلب الذي كان..
فيخفق في النجاة
يتيه..
أصابعه لا ترسم ..
لا تمسك بالجهة اليسرى
( غيبيني وامسحي ظلي )
فيكون قد..كان
خبا
( أي نعش بارد يعرق )
يصرخ غيلان..
( فوا لهف قلبي عليك )
________
* اللوحة تعود لي
* مابين الأقواس يعود للشاعر ( خليل حاوي )
تحيتي: عايدة الربيعي