حدث معي أكثر من مرة، أجد طالبًا في مواقف السيارات يشخر داخل سيارته فأتذكّر حكاية المكيف الذي يفرز مادة سامّة تقضي على الضحية النائمة، ودون أن أناقش صحة هذا الأمر من عدمها أقوم بطرق نافذة السيارة على الطالب ثم أطلب منه الذهاب إلى مسجد الجامعة والنوم فيه إن كان لابد، وهكذا صرت ناطورًا أترقّب السيارات داخل عتمة المواقف لتلافي حدوث حكايات موجعة بسبب مادة الفريون السامة، وأتمنى أن يحذو حذوي كل عابر داخل هذه المواقف أو غيرها، غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد فيما يخص جامعتنا العريقة، بل يتجاوز ذلك إلى مبانيها النائية في طرف المدينة وقد أحالها هذا إلى ما يشبه المعتقل السياسي حيث لا وجود لشيء مما يعوّل عليه من تنفّس طبيعي لضجيج المرافق العامة والحدائق الطلابية الملأى بالعابرين، وكان ذلك متحققًا في فترة دراستي البكالوريوس يوم كانت مباني الجامعة في العزيزية، وأظنه سببًا رئيسًا من أسباب استمتاعنا بالمحاضرات وتكوين الشخصية العلمية المحبّة للمعرفة، فقد كانت الجامعة آنذاك مدينة حقيقية، لا معمارية فحسب، مدينة باعتبارها مأهولة بحركة الناس ومحاطة بالمحلات التجارية والمكتبات وأماكن التصوير والبوفيهات والبنايات الفخمة المجاورة.
لا أغفل هنا حتى محلات الطعمية والفلافل التي هي جزء من بهجة الطريق إلى الجامعة، خلافًا لما يحدث لطلابنا اليوم إذ يقطعون مسافة سفر إلى الجامعة، ثم إذا وصلوا منهكين لم يجدوا سوى بنايات إسمنتية صامتة ورواق شاسع موحش ليس فيه من الباعة سوى بائع المساويك باسطًا ذراعيه أمام مبنى كلية الشريعة. والحالة هذه لا أتنبّأ بمستقبل معرفي طموح لطلابنا، فالبيئة العلمية لابد أن تكون في مركز المدينة وأن تُحاط بكل ما يمتّ للمدينة بصلة من مرافق عامة ومحلات تتيح للطلاب البقاء بجوار الجامعة حين يحتاجون لذلك، لا الذهاب إلى مواقف السيارات والنوم داخل دهليز المواقف الساخن حتى يحين موعد المحاضرة. في ظني أن أولى خطوات التطوير والجودة معنيّة بها إدارة الجامعة وهي تتمثّل أولًا في تهيئة المكان الذي هو أساس البيئة، ولا بد في الطريق إلى تحقيق ذلك أن نميّز بين تشييد المباني وتهيئة البيئة، فالبيئة ليست في المبنى وإنما فيما يحيط به، وهذا غير متحقق في مكان الجامعة الحالي، ولهذا من المهم تحقيق أحد أمرين، إما جلب السوق وحركة الناس بأي طريقة كانت إلى حيث تقع الجامعة أو إعادة الجامعة إلى السوق وحركة الناس، لو بتوزيع الكليات في مفاصل المدينة وشرايينها، هذا إذا كنّا جادّين فيما يسمّى ملف التطوير والجودة.
بغير هذه الخطوة لن تؤدي كل الطرق إلى الجودة، وستظلّ الجامعة مجرّد بنايات من الطراز الحديث الخالي من كل أسباب العلم والحياة معًا. أعيدوا لطلابنا أصوات الباعة وضجيج محلات التصوير، أعيدوا البيئة النابضة بالحياة قبل أن تطلبوا منهم فهم المسائل العلمية وحضور الأنشطة الثقافية، وقبل أن تخطوا خطوة واحدة نحو التطوير الفعلي للمناهج .
سعود الصاعدي