فإذا تقدًمت الصلاة تباعدت الأرجل والأكتاف من بعضها؛ حتى صار الصف الواحد كافياً لاستيعاب مزيد من المصلين من شدة تباعد كل مصلٍّ عن الآخر، لدرجة أن تجد مصليَين لو دخل أحد بينهما لكفته المساحة الفارغة!
ويُحكى أن أحد المصلين أخذ يقرِّب رِجْلَه من رِجْل المصلي الواقف إلى جانبه، بينما كان الآخر يبعد رِجْلَه كلما اقترب صاحبنا منه، وعندما أكثر في الاقتراب منه، رفع ذلك الرجل رِجْلَه ولسان حاله يقول: (إذا استطعت أن تلصق رِجْلَك مرة أخرى فافعل)!
ويتأفف البعض ويأنف أن يلصق رِجْلَه أو كتفه برِجْل وكتف من يقف إلى جانبه في الصلاة، ويعتبر من يلتصق به مضايقاً له أو متعدياً عليه، إما لكِبْر وأنِفَة في نفسه، أو لجهل بفضل الاستواء في الصف، مع معرفته بأن الكِبْر منهي عنه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْرٍ) رواه مسلم (91).
وقد لا يعلم الكثيرون أن هذا التباعد من الشيطان الذي يحرص على التفرقة بين المؤمنين، وأن تباعد الأجساد سبب في تباعد القلوب وتنافرها؛ لذا كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على تسوية صفوف المصلين، والمحاذاة بين المناكب والأقدام، فكان يقول بعد إقامة الصلاة: (أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن بين قلوبك ) رواه أبو داود (662)، وكان يقول: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ، وَحَاذُوا بين الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا في أيدي إِخْوَانِكُمْ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ الله – تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ الله) رواه أحمد (5691)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6/14)، كما كان يقول: (استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم) رواه مسلم (432)، وقد بوَّب البخاري فقال لذلك “باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف”، وقال النعمان بن بشير: (رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه). قال الحافظ ابن حجر: (المراد المبالغة في تعديل الصف وتعديل خلله).
وامتثل الصحابة رضوان الله عليهم أمره عليه الصلاة والسلام حتى قال أنس رضي الله عنه: (فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه, وقدمه بقدمه)، قال الألباني: (صحيح على شرط الشيخين)، وقال معلقاً على الحديث: (فلو ذهبت تفعل هذا اليوم لنفر أحدكم كأنه بغل شموس)!
وفي الحديث: (كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ.فَ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ) رواه أبو داود (2628)، فردَّ سبب هذا التفرق في الأجساد إلى الشيطان الذي لا يريد لهذه الأمة ألفة ولا محبة ولا وحدة.
وأكثر الناس يركز على أطراف الأصابع، فيحرص على أن يلصقهما بمن كان عن يمينه وعن يساره حتى لو اضطره ذلك لأن يباعد بين قدميه، دون اهتمام بالكتفين، أو أن يلصق قدميه ببعضهما، مع أنه لو اهتم كل مصلٍّ بأن يضع قدميه بمحاذاة كتفيه دون تباعد أو تلاصق بحيث يكون القدمان في موازاة الكتفين لالتصقت قدما المصلي بقدمي من كان عن يمينه ويساره، وكتفاه بكتفيهما، ولطبق أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المحاذاة والاستواء والتراص في الصف.
ويخطيء البعض عندما يجعل لاستواء في الصف بأطراف الأصابع لا بالأكعب. يقول الشيخ العثيمين في توضيحه لمعنى الاستواء في الصف: (المساواة إنما هي بالأكعب لا بالأصابع؛ لأن الكعب هو الذي عليه اعتماد الجسم؛ حيث إنه في أسفل الساق، والساق يحمل الفخذ، والفخذ يحمل الجسم، وأما الأصابع؛ فقد تكون رِجل الرجُل طويلة فتتقدم أصابع الرجُل على أصابع الرجُل الذي بجانبه، وقد تكون قصيرة وهذا الاختلاف لا يضر، وليس التساوي بأطراف الأصابع بل بالأكعب، أكرر ذلك لأني رأيت كثيراً من الناس يجعلون مناط التسوية رؤوس الأصابع؛ وهذا غلط).
إن أمة لا تجتمع في صلاتها التي تقف فيها بين يدي ربها لا يستغرب في تشرذهما وتفرقها فيما دون ذلك، وأن تفشل وتذهب ريحها، وأن يسود بين أفرادها الحسد والعداوة والبغضاء؛ لأن تفرق الأجساد سبب في تفرق القلوب كما مرّ معنا.
لذا علينا أن نبدأ تقاربنا وتوحدنا ومحبتنا لبعضنا البعض من الصلاة؛ لننطلق منها إلى سائر الأمور، فنكون كالجسد الواحد، معتصمين بحبل الله جميعاً، متحابين في الله؛ حينها سوف نسود العالم بإذن الله تعالى، ونعود بأمتنا إلى خيريتها، وإلى سيرتها الأولى.
علي صالح طمبل