مدخل :
لا نقصد بالرواية البوليفونية أو المتعددة الأصوات هنا، الروايات الخيالية التقليدية ، التي تتعدد فيها أصوات و وجهات نظر الشخصيات المستقلة عن بعضها البعض ، وتختلف فيها المواقف والرؤى والآراء ، على قدم المساواة مع صوت المؤلف أو الراوي . هذه التقنية السردية ، التي ظهرت لأول مرة في روايات دوستويفسكي الأساسية ، وخاصة ” الجريمة والعقاب ” حسب المنظر الروسي ميخائيل باختين ، بل نقصد بهذا المصطلح الرواية البوليفونية الوثائقية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين في كتابات عدد من الكتاب البيلاروس .
يعتقد بعض الباحثين الروس ان رواية الكسندر سولجينيتسن “أرخبيل غولاغ” الصادرة في العام 1976 كانت اول رواية بوليفينية ( جديدة ) – وكلمة غولاغ هي إختصار للمديرية العامة للمعسكرات والمعتقلات بالروسية – وتتناول الرواية حملات القمع وتصفية الخصوم في الفترة ما بين عامي 1918- 1956 ، وتعتمد الرواية على الرسائل الشفوية وبعض الرسائل الكتابية لنحو 257 سجين ، معظمهم من سجناء الرأي والضمير ، وكذلك تجربة الكاتب الشخصية ، حيث كان أحد ضحايا القمع الستاليني وقضى سنوات عديدة في بعض تلك المعتقلات . ولكن كتاب سولجينيتسن يتضمن الأشاعت والأقاويل التي كانت شائعة في المجتمع السوفييتي في عهد ليونيد بريزنيف حول معسكرات العمل الأجباري والمعتقلات ، أكثر مما يتألف من الرسائل الكتابية أو الشهادات الحقيقية للضحايا ، وقد مزج سولجينيتسن بين الواقع والخيال ، هذا المزج يحدث في أي رواية خيالية ، فالمؤلف يتحكم في المادة الخام ، والمواقف ، ووجهات النظر من وراء قناع الرواي ، لذا لا يمكن اعتبار ” أرخبيل غولاغ ” رواية بوليفينية وثائقية ،موثوقة المصادر ، ولا تعتبر بداية حقيقية لهذا النوع من الروايات .
ما فوق الأدب :
في عام 1977 صدر في موسكو كتاب : ” أنا من القرية المحروقة ” من تأليف ثلاثة كتاب بيلاروس اليس اداموفيتش ( 1927-1994 ) و يانكه بريل ( 1917-2006) و فلاديمير كوليسنيك ( 1922-1994 ) ويتضمن شهادات حوالي 600 شخص نجوا من الموت بأعجوبة عندما قام الجيش النازي الألماني بحرق مئات القرى خلال احتلاله لجمهورية بيلاروسيا في الحرب العالمية الثانية. فكرة هذا الكتاب وصياغته على شكل رواية وثائقية متعددة الأصوات تعود الى أداموفيتش تحديدأً ، والذي كان على قناعة تامة بأن الكتابة عن مآسي القرن العشرين الكبرى، بلغة النثر الفني التقليدي أي على شكل ( رواية خيالية ) ، تعني الأستهانة بمعاناة ضحايا تلك المآسي وجرح شعورهم . وهو أمر يثير التقزز ، ومرفوض أخلاقياً ، حيث لا يجوز في هذه الحالة أن نتخيل أو نختلق ، بل ينبغي التعبير عن الحقيقة كما هي من دون قناع، أو تحريف ، أو تزويق .
بحث أداموفيتش طويلاً عن اسم يعبّر عن جوهر هذا الجنس الأدبي المستحدث ، فأطلق عليه في مقالاته ودراساته النقدية أسماء مختلفة منها ” الرواية الكاتدرائية”، و” رواية الموشح الديني ” ،و ” رواية الأعتراف ” ، و” رواية الشهادة ” ، و” الناس يتحدثون عن أنفسهم ” ، و” النثر الملحمي الكورالي “واستقر رأيه في نهاية المطاف على تسميته بـ” ما فوق الأدب “. هذا الجنس الأدبي الجديد ممتع حقاً . فالرواية البوليفونية الجديدة أشبه بجوقة درامية جبارة لأصوات متعددة ، يختفي فيها صوت المؤلف أو الراوي وتحل محله أصوات الناس.
الكسيفيتش رائدة الرواية البوليفونية الجديدة :
قبل أن تكتب سفيتلانا الكسيفيتش – الحاصة على جائزة نوبل في الآداب لعام 2015 – رواياتها الفنية – الوثائقية الست ، جربت كتابة القصص القصيرة والمقالات والريبورتاجات الصحفية ،ورغم نجاحها في كل ذلك ، غير أنها لم تكن راضية عن نفسها ، كانت تسعى للبحث عن جنس أدبي يلائم عامها الروحي ورؤيتها للحياة. وربما كانت حيرتها ستطول لولا أنها قرأت كتاب ، ” أنا من القرية المحروقة ” المارة الذكر.
وتعترف الكسيفيتش بأنها تعلمت الشيء الكثير من كتاب” أنا من القرية المحروقة “ وبأنها تلميذة لأداموفيتش ، الذي منحها ماكنة للتفكير على حد قولها . ولم تذكر الكسيفيتش كتاباً آخر ألفه أداموفيتش من النمط نفسه بالتعاون مع الكاتب الروسي دانيل غرانين ( 1919- ) وهو ” كتاب الحصار “ ،الذي يتحدث عن المآسي البشرية خلال حصار مدينة ( لينينغراد – بطرسبورغ حالياً ) في الحرب العالمية الثانية ، والسبب أن تعليقات المؤلفين الكثيرة تقطع مونولوجات الشهود ، أي أن المؤلفين تدخلوا كثيرا سواء في سرد الحوادث أو التعليق على الشهادات ، مما ينفي عن الكتاب صفة الرواية الوثائقية .
أداموفيتش هوالذي شجع الكسيفيتش على العمل في مجال الأدب الوثائقي ، واقترح عليها تأليف كتاب عن النساء السوفييت اللواتي قاتلن وعملن في صفوف الجيش السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية .
الكسيفيتش قادرة على الأمساك بعصب المشكلة التي تتناولها وتجسد الحداثة والأبتكار ، وهي التي تخترق المجالات المحكمة الأغلاق ، وتواجه ثقافة المكبوت والمحظور ، وقد كتبت خلال ثلاثين عاما من العمل ، مع مواد وثائقية حية وليس ورقية ، ستة كتب تتضمن قصص أناس حقيقيين ، تشكل تأريخ البلاد – تأريخ الحقائق وتأريخ الروح . عن احساس الشخص في المنعطفات والتحولات التأريخية. وهذه الكتب هي :
1 – ليس للحرب وجه أنثوي ( 1983) : يتناول مآسي اشتراك حوالي مليون امرأة وفتاة سوفيتية في الحرب العالمية الثانية ، وعذاباتهن وتضحياتهن ،وكيف حطمت الحرب حياتهن .
2 – آخر الشهود (1985) : هذا الكتاب لا يشبه أبدا قصص الأطفال بالرغم من أنه يحكي ذكريات شخصية لأطفال عاصروا الحرب. بمعني أدق، يبين هذا الكتاب الحرب بعيون الأطفال والنساء “.
3 – اطفال الزنك ( 1989 ): أصوات سوفييتية من حرب منسية: نظرة جريئة إلى حرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (1979–1989)، والعنوان يذكرنا بأن الجيش كان يشحن الموتى في الحرب إلى مسقط رؤوسهم في توابيت من الزنك .
4 – صلاة لتشرنوبل تأريخ للمستقبل ، عن كارثة المفاعل المعروفة .
5 – مسحورون بالموت ( 1993 ) يحكي عن محاولات إنتحار حقيقية تسبب فيها إنهيار الإتحاد السوفيتي. فكثير من الناس لم يستطيعوا التخلي عن أيدولوجيتهم الشيوعية أو حتي التأقلم مع الواقع الجديد ،
6 – زمن مستعمل ( 2013 ) عن العهد البوتيني ، وتقول الكاتبة عن هذا العهد ان روسيا بحاجة الى الحقيقة . الحقيقة معروفة ولكن لا أحد يريد معرفة الحقيقة. انهم يريدون استعراضات النصر . من الصعب أن تقنع الناس بأن زمنهم رديء .
وجدت الكسيفيتش طرقا للوصول الى الناس ، الذين كانوا ينفتحون أمامها ويتحدثون عما يصعب الحديث عنه ، عن ذكريات أليمة وحميمة تبقي محفورة في الذاكرة ولكن الأنسان يحاول دائماً اخفائها في أعمق أعماق النفس ،أو نسيانها ولا يمكن البوح بها لكائن من كان ، جروح نفسية غائرة في الأعماق لا تندمل بمرور الزمن تترك آثاراً في حياة الضحية الى آخر العمر . ما أشق أن تجعل الضحية تتحرك وتستجيب للحديث عن كل ما يوجعها . ولكن الكسيفيتش لها قدرة نادرة على التعاطف والمشاركة الوجدانية مع ضحايا الحروب والكوارث ، مما يجعل مهمتها المستحيلة ممكنه ، وهذا تميز لم يحظى به حتى استاذها أداموفيتش .
اعتراف لجنة نوبل بالكاتبة التي تعبر عن نفسها من خلال شخوص أحياء حقيقيين – وليس شخصيات خيالية ، انعطافة ثقافية مهمة .
..في احدى مقابلاتها الصحفية لخصت الكسيفيتش الفكرة الرئيسية لكتبها ، وحياتها الأبداعية قائلة : ” أنا اريد دائما أن أفهم ، كم من الأنسان في الأنسان ، وكيف يمكننا حماية هذا الأنسان في الأنسان ؟ ان كتبي هي عن قوة الروح الانسانية .
في المختبر الإبداعي لألكسيفيتش :
البناء الروائي واسلوب الكتابة لدى الكسيفيتش ليس نقلاً حرفياً أو تسجيلاً للواقع ، فما تكتبه تمر من خلال روحها وقلبها ، والكمية الهائلة من الأحاديث و الأعترافات والشهادات تجزأ الى جزيئات صغيرة ، ومن هذه الجزيئات يتم تخليق مادة النثر ، فوراء كتبها عمل مُضْنٍ وجهد كبير. والأمر الأساسي بالنسبة اليها عدم فقدان الخط الأبداعي لفكرة الرواية الرئيسية, تختار الكاتبة أصوات وشخصيات الرواية من شتى الشرائح الأجتماعية وتحاول وضعها بنجاح في خط سردي واحد . ففي ” صلاة لتشرنوبل ” ثمة صراخ الناس الأحياء ،وأصواتهم ، من ابسط الناس الى اكثرهم علما ووعيا مثل علماء الذرة .ولا تنسى الكاتبة الأهتمام بالأسلوب والصياغة الأدبية ، وتحافظ على خصائص لغة وكلام الشهود وهي اللغة المحكية البسيطة التي تعطي تصوراً حقيقيا عن حياة المجتمع في فترة تأريخية معينة .
وهي تختار الشخصيات بعناية ، فهي تلتقي بحوالي 600-700 شخص ولكن الرواية لا تتضمن الا قصص عدد محدود منهم .و يتم هذا الأختيارعلى أساس فهمها للأحداث ، وتقول انه ليس لكل شخص القدرة على الحديث بجلاء عما يؤلمه وتؤكد إن الأطفال والناس البسطاء ، هم رواة القصص المدهشة ، الذينلم تفسدهم بعد الصحف ، والكتب الرديئة ، والخرافات ، وهم أبرياء وأنقياء ، ويتحدثون عن قصصهم ، التي لن تجدها ابدا في أي مكان آخر . أما الناس الذين قرأوا كثيراً ، وتعلموا كثيراً ، فإنهم ليسوا دائماً رواة جيدين . فهم غالباً أسرى لتجارب الآخرين .
اذا كان المؤلف في الرواية الخيالية يتقمص شخصية الراوي فان صوت مؤلف الرواية الوثائقية ، يختفي من النص ، ولكن قد يكتب مقدمة أو مدخلا في بعض الأحيان كما تفعل الكسيفيتش . ففي بادية روايتها الوثائقية ” ليس للحرب وجه أنثوي ” كتبت عن دور المرأة في الحروب ، و تتحدث عن فكرة الكتاب الأساسية وتقول عما تعتقده عن الموضوع وماذا تريد ان تنقل للقراء . وقد تلجأ احيانا الى كتابة ملاحظات ختامية ، وكذلك يمكن الأستدلال على دور الكاتبة داخل النص من خلال تحكمها في صياغة الحوار والأسئلة التي توجهها الى الشهود.
وتقول الكاتبة : ” ليس الشيء الرئيسي في هذا الجنس الأدبي هو جمع الحقائق والوقائع ، بل النظر اليها من منظور جديد والحصول من كل شخصية على اكثر ما يمكن من معلومات جديدة ومشاعر جديدة وليس العادية ، وابراز التفاصيل والفروق الدقيقة . او بتعبير آخر خلق فلسفة جديدة للحوادث .. وعندما تحرص الكسيفيتش على معاينة وتأمل حياة الناس ، فإنها تبحث عن الفن في الحياة نفسها . ان الرواية البوليفونية الوثائقية – كما تجسدها روايات الكسيفيتش – نوع من الأدب أعمق تعبيراً عن الواقع من الأدب التقليدي ، الذي أخذ يتآكل ويتحول الى سلعة في السوق .
جــودت هوشيار