عرض مسرحي
تنويري معاصر
رؤية / ناصر بن محمد العمري
مدخل:
يبدو أن قدر أي عرض مسرحي يتصدى لكتابته فهد ردة أن يكون قارئه مجبرًا على تخصيص مساحة ليست بالهينة لتأمل النص وقراءته؛ انطلاقًا من كون النص فيه يبرز كعلامة مهمة وملهمة، وأزعم أن هذه حالة متكررة شعرت بها في كل عرض كان كاتبه الأستاذ فهد.
توطئة:
لماذا الهامش؟!
يبرز هذا السؤال كمفتاح قرائي مهم، ولعل هذا السؤال الافتتاحي المهم يقودنا إلى تتبع الهامش تاريخيًّا في رحلة الوجود الإنساني، والذي لم يستطع أن يكون غير هامش بصفته ملحقًا للمتن لردح من الزمن، وهنا يتبرعم سؤالًا مهما هل مازالت هذه الحقيقة قائمة ؟!
* الواقع يؤكد عكس هذه الحتمية التاريخية التي جعلت الهامش خارج الاهتمام ومؤكد بأن هناك تناميًّا في الاهتمام بعالم المهمشين وخصوصًا في الأدب التونسي من خلال رواية المصب للكاتبة شادية القاسمي نقمة المهمشين للدكتور الطويلي فيما محليًّا تنوس روايات عبده خال في هذه العوالم، وهذا مايجعل جدلية المتن والهامش ممكنًا مسرحيًّا خصوصًا وأن المسرح فن يقوم على الجدل.
*شخصية فهد الحارثي وأسلوبه ومنهجه الكتابي تتقاطع مع التيارات الحديثة التي تركز على تضخيم الهامش، والاهتمام بالحياتي واليومي والمعتاد، وتنظر إليه كمتن وهذا أحد ملامح الراهن الثقافي والمسرحي، وهذا يجعلني أقول: إن (سفر الهوامش)عرض معاصر يستلهم روح العصر.
*وبالعودة لعرض (سفر الهوامش) سنجده منفتحًا على تأويلات عدة ذات إحالات مغايرة، ويمكن أن يقرأ بأكثر من صيغة جمالية دعوني أحاول اللحاق بها من خلال عدة نقاط:
أ) إذا ما اعتبرنا العناوين عتبة أولى للقراءة؛ فإننا سنجد أنفسنا أمام عنوان مركب مكون من كلمتين الأولى سفر بكل ماتحمله من معاني الضخامة؛ حيث السفر في اللغة هو الكتاب الضخم والكبير (والكتاب للتعليم والتنوير)؛ مما يعني أننا أيضًا أمام فرصة سانحة للتعلم من هذا السفر الذي يكونه الهامش، وهذا يجعلني أقول: إن (سفر الهوامش عرض تنويري).
– الكلمة الأخرى في العنوان هي هوامش وهي جمع هامش يُقال: فلانٌ يعيش على الهامش: أي أنه منفرد غير مندمج في المجتمع / مُهْمل الهوامش (جاءت بصيغة الجمع لا المفرد)؛ لتمنح المعنى التضخيم ومن الثيمات الرئيسة التي شكلت مفاصل في العرض.
ب) البحث عن الذات والكينونة عبر مفردات بسيطة ومشاهد اتسمت بالمتعة البصرية والتشكيلات الجسدية والتكوينات الجيدة.
ت) – اللغة المرتدة للداخل (بيوتنا التي تحتوينا تغادرنا، تغتال أحلامنا تتحول صناديق مغلقة. لا أجدني. اقرأني) هذه اللغة التي تتقاطع مع اليومي والحياتي تهتم بأسئلة الإنسان العادي وهواجسه وآلامه وآماله، وتجسد حالات التشظي عنده، وهذا أصبح ملمحًا في تجارب عدة لمسرحيي الطائف من بينها هذا العرض.
ث ) الاستمتاع بالضجيج كانت دعوة أحد الهامشيين، وهذا يُحيلنا إلى تيار (جماليات القبح).
ج) التنافس سمة رئيسة من سماتنا كبشر توجد حتى في أوساط المهمشين؛ وكأن العمل يقول إن علينا قبولها وتهذيبها لخلق جماعة بشرية الهامش أصبح مزدحمًا رسالة تحمل لغة تحذيرية رغم بساطة الجملة إلا أنها كانت صرخة فوق خشبة المشرح تُحيلنا إلى تأمل واقعنا.
ح) التجسيد الكتابي لهذه التكوينات لم يكن بطريقة مكررة أو معتادة، بل عبر جعل الكتابة عملًا انقلابيًا بتعبير نزار قباني عبر حلول كتابية حديثة تتقاطع مع التيارات الحاكمة للفنون.
خ) اللغة آسرة تجمع بين الفخامة والعمق والسلاسة ولاتغفل التعبيرية، وتستلهم الدهشة، والاهتمام بالتفاصيل الحياتية والتقاط مايتناسب مع جسد العمل وبنيته.
د) العرض في مجمله يُحيلنا إلى تأويلات عدة وينفتح على أكثرة من قراءة ويثبت قدرته على التصادي والتنافذ مع الواقع ومعنا كأفراد بل وكأمة تُعاني الهامشية. فنحن كأمة نعيش على الهامش على الصعيدين الرسمي والشعبي بل وحتى على الصعيد التقني والتكنولوجي والإنتاجي، حيث لا نقوم إلا بأدوار هامشية في المسيرة الكونية، كأن نتخاصم أو نفترق عن بعضنا البعض، وهي الحالة التي حملها العمل المسرحي بكفاءة واقتدار. والرسالة التي يمكن أن نؤكد أن العرض أوصلها.
ذ) عرض (سفر الهوامش) لم يكن سهل التلقي، بل جاء موحيًّا وغير تقليدي من حيث البناء، فلم يعتمد بداية وذروة وحل، واعتمد على مجموعة من الصور، ولكل صورة ذروتها الخاصة، التي اجتمعت بمقولة واحدة كلية تم توصيلها بالخطاب والمشهد.
د) تعودنا في الأدب إنسنة الأشياء، لكننا في سفر الهوامش شاهدنا تشيئة الإنسان.
ز) هذه بعض الرسائل المهمة من رسائل العمل التي أوصلها الكاتب فهد ردة باقتدار واستطاع تمريرها عبر النص وتعامل معها المخرج مساعد الزهراني برؤية بصرية لم تخذل الرسالة، بل حاولت تجسيدها بصريًّا.
ش ) المخرج اشتغل على واقع اللاجئين ومعسكراته التي شكلت منازلهم التي يعيشون بها من جهة واستخدامها كفضاء ومنازلهم التي بدواخلهم من جهة أخرى، وقد أعطى ذلك التشظي ديناميكية للعرض وحرية لوصول المعنى إلى المتلقي عبر حركات وتكوينات مختلفة والمشاهد البصرية وعبر تكوينات مميزة ومشهدية بصرية جاءت قادرة على الجذب والإمتاع.
س) ورغم الهامش لم تكن اللغة طافحة بالألم والانكسار والهزيمة رغم وجودها عند المهمش إلا أن العرض ذهب إلى متوالية هامش الهامش.
ص) (تسييل الشخصيات وتعميمها)؛ حيث لم نرَ سمة مميزة للشخوص في النص المكتوب، ولم نرَ مظهرًا بعينه يُحيلنا إلى شخصية معينة إلا أن المخرج أسقط الهامش على واقع المشردين واللاجئين، وصور لنا معاناتهم في جانب من مشاهد العرض.
ض) الممثلون كانوا داخل الإطار الرئيسي للعرض من غير تسليط الضوء على أحدهم على حساب الآخر، وقد أثبتوا كفاءة جمعية على صعيد الأداء. إلى حد بعيد فيما الإضاءة حملت رؤية العرض بشكل جيد وجسدته، وتقاطعت مع الحاجة إلى تثبيت ما يحصل في عالمنا المهمش.
ف) الفن حين يوحد الناس كانت إحدى رسائل العرض جسدها اجتماع الممثلين المتخاصمين حول بعضهم على صدى الأهازيج والأغنيات.
ق) رغم جدية القضية التي يطرحها العرض إلا أن المخرج نجح في إسقاط مشاهد والتقاطات لم تخل من الكوميديا القادرة على انتزاع الضحكة ك ) الخيام والإضاءة تضافرت في خلق مشهدية رائعة أضفت جمالا باهر على الفضاء المسرحي ع ) مجمل القول أن العرض لم يكن فقط يجسد ويشخص هامشية الأمة العربية بل كان أيضا رسالة مهمة واعية للشباب من حيث أن مانعتقده هامش قديتحول إلى متن ويصبغنا بصبغته والانعتاق منه قد يحتاج جهدا مضاعفا جسده الخط الاحمر بدلالاته اللونية لكنه حتما بالإمكان تجاوزه ماتقدم إضاءات بين يدي جمالية وفرجوية عشناها وإتاحت لنا لذة مشاغبة هذا العرض.
ويبقى السؤال هل أحاطت هذه القراءة الإحاطة بكل ماحمله إلينا العرض او على الاقل مناهزة المتن الذي شكله عرض سفر الهوامش.
————-
قراءة في عرض سفر الهوامش مقدمة للندوة التطبيقية للعرض المقدم مساء الاثنين الموأفق. 27 شوال 1437 ضمن فعاليات نشاط مهرجان الجنادرية المسرحي 30 ج.