تتلخص تاريخ سور المدينة المنورة الشريفة على النحو التالى تجديدًا وتعميرًا وترميمًا : (1) في سنة (266) من الهجرة الشريفة : بُنى أول سور على المدينة المنورة، وأنشأه وأسسه واليها : الأمير إسحق بن محمد الجعفري الطالبي الهاشمي، وليس الجعدي كما يقولون. (2) في سنة (360 ) من الهجرة : جدد بناء السور عضد الدولة ابن بويه في خلافة أميرالمؤمنين الطائع لله بن المطيع لله، فبقى هذا السور زمنًا ثم تهدم وخرب مع مرور الأيام والسنين . (3) في سنة ( 558 ) من الهجرة الشريفة جدد بناؤه السلطان نور الدين الزنكي رحمه الله. فبناه بناءً محكمًا جدًا، وكتب تاريخه على أحد أبوابه الذى كان يُسمى باب البقيع على صفحة الحديد المصفح الذي يغطى صفحة هذا الباب ما يلي: هذا ما أمر به العبد الفقير إلى الله تعالى : محمود بن زنكي بن أقسقر، غفر الله له سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. فبقي هذا السور والكتابة التى كتبها السلطان نور الدين محمود الزنكي -رحمه الله- على بابه حتى سنة ( 888 ) من الهجرة الشريفة، كما ذكرها الإمام نور الدين السمهودي فى تاريخه الوفا. وقال : وهو باق إلى يومنا هذا، إلى أن كتبنا كتابنا هذا انتهى . (4) في سنة (751) من الهجرة الشريفة : جدد هذا السور الملك الناصر السلطان حسن بن محمد بن قلاوون -رحمه الله- صاحب الديار المصرية والحجازية، كما ذكرها الإمام زين الدين المراغي في تاريخه تحقيق النصرة. وأشير هنا إلى أن السيد أحمد الخياري ذكر ذلك فى تاريخه معالم المدينة، ولكنه ذكر أن تجديده وقع فى سنة ( 755 ) وهو خطأ بناء على ما ورد في مصدره. وكذلك ذكرها الشيخ عبد القدوس الأنصاري في تاريخه: آثار المدينة. ولكنه، قال: جدده بعض ملوك الإسلام، ولم يسم السلطان حسن -رحمه الله-، كما أنه لم يسند الرواية إلى مصدره وهو الإمام أبوبكر المراغي في تاريخه تحقيق النصرة. (5) في سنة ( 939 ) للهجرة الشريفة : جدد سور المدينة الشريفة السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان رحمهم الله، وبناه على أساس السور القديم، واستغرقت أعمال البناء سبع سنوات، فكان الانتهاء من تمامه سنة (946) للهجرة. وكتب على أحد أبوابه المسمى باب المصري الذى كان يقع باتجاه المناخة ما نصه: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، كما ذكرها السيد أحمد ياسين الخياري -رحمه الله- في تاريخه. وزاد الشيخ عبد القدوس الأنصاري في كتابه : آثار المدينة صفة هذا البناء، فقال : وبناه بالحجارة والجص، وهو محكم البناء، سميك للنهاية، شامخ جدا، ثم ذكر أبوابه، فعدد له ثمانية أبواب، فقال : باب المصري، الباب الشامي، باب قباء، باب بصري، باب المجيدي، باب الجمعة، باب الحمام، الباب الحديد، ثم قال : أما الباب الصغير فهدمه فخري باشا مع ما حوله من السور إبان الحرب العالمية الأولى، ثم هدم أغلب أجزاء هذا السور فيما بعد في عهد الدولة السعودية، حيث الأمن مستبب في أنحاء البلاد انتهى باختصار .. هذا الباب الشامي .
وذكر بعضهم : أنه في سنة (751) من الهجرة الشريفة : جدد الأمير السيد سعد بن ثابت الجمازي الحسيني سور المدينة، وهذا خبر غير دقيق. والصحيح : أنه حفر خندقًا حول هذا السور، فمات رحمه الله قبل أن يستكمل حفره، ثم استكمل العمل فيه خلفه الذى تولى المدينة الشريفة من بعده : الأمير الفضل بن القاسم بن أبي سند الجماز الحسيني. وكان هذا خندقًا حول السور ولم يكن سورًا فاشتبه ذلك على بعض المؤرخين . وبناء على ما سبق ذكره : فإن سور المدينة المنورة بُنى خمس مرات في مراحله التاريخية، فكان الأولى بناء له سنة (266) والذى بناه الأمير إسحق بن محمد بن يوسف الجعفري. وآخره الذى جدده السلطان سليمان خان سنة (946) من الهجرة، فبقى حتى سنة (1351) من الهجرة .
ثم بدأ يتهاوى بفعل الهدم والتقادم وغير ذلك. ونحن شاهدنا الباب المعروف بالباب المصرى في حدود سنة (1400) من الهجرة تقريبًا قبل أن يزال، وكان الباقي من السور هذا الباب فقط، وكان على مدخل سوق المدينة المعروف بسوق القماشة أو السويقة المفضي إلى باب السلام. وكان مبينًا بالحجارة، وعليه مصراعان من الخشب، وكان أثرًا باقيًا. وأما الأبواب فى السور الأول فكانت: أربعة كما ذكرها المؤرخون. وكان فى السور الأخير الذى بناه السلطان سليمان خان : ثمانية أبواب كما ذكرها الشيخ عبد القدوس الأنصارى في تاريخه: آثار المدينة. غير أنه لم يذكر جملة من هذه الأبواب وهي : باب العوالي، باب التمار، باب الكومة، باب العنبرية. ولا أدرى هل نسيها أم سها عنها. وقد أدركنا هذه الأسماء متداولة على ألسنة أهل المدينة فى عصرنا هذا إلى عهد قريب، مما يدل على أنه كانت هناك أبوابا بهذه المسميات. فباب قباء وباب الكومة ما زال الناس يتداولون هذا الاسم حتى هذه الأيام. وأما باب التمار وباب العنبرية، فقد انتهت تداولها نهائيًّا بين الناس ولا وجود لها اليوم . أما السبب الذى دعا إلى إنشائه وبنائه : فكان هو الخوف من النهب والسلب، وكثرة الغارات عليها.
وقد ذكر الإمام السمهودي في تاريخه الوفا : أن السبب وراء إنشاء هذا السور، واستمرار تجديدها كلما تقادم أو تهدم : هو الخوف من الغارات والنهب والسلب الذي كان يتعرض لها سكانها الآمنين، ونقل فى ذلك عن الإمام ابن الأثير صاحب التاريخ الكامل: إنه رأى بالمدينة رجلًا يصلي الجمعة، فلما فرغ ترحم على الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وكان أحد المسؤولين الذين جددوا هذا السور بعد تهدمه فى القرن السادس من الهجرة. وكان رجلًا صالحًا، تقيًا نقيًا، ناسكًا ورعًا، وكان وزيرًا لسلطان الموصل بالعراق، فسألوا الرجل عن سبب دعائه لهذا الوزير ؟ فقال : يجب على كل مسلم بالمدينة أن يدعو له؛ لأننا كنا في ضر وضيق مع العرب (الأعراب) لا يتركون لأحدنا ما يواريه ويشبع جوعته، فبنى علينا سورًا احتمينا به ممن يريدنا بسوء، فاستغنينا، فكيف لا ندعو له ؟ وروى كذلك الإمام مجد الدين الفيروز آبادي في تاريخه: المغانم المطابة: أن خطباء مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، كانوا يقولون في خطبهم : اللهم صن حريم من صان حرم نبيك بالسور، محمد بن علي بن أبي منصور، يعنون به هذا الوزير جمال الدين -رحمه الله .- وإذا كنا قد أتينا إلى هذه المرتبة من التصحيح. وتم توضيح تاريخ بنائه وتصحيح نسبه ونسب بانيه الأول، وأزحنا عن تاريخ سور مدينة نبينا -صلى الله عليه وسلم- بعضًا من الأخطاء التي تواصل عليها المؤرخون حتى يومنا هذا، وهذه منة من الله تعالى على العبد الفقير أن يضيف فائدة مهمة تتعلق بسور المدينة الشريفة.
د. السيد ضياء بن محمد عطار
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية