المقالات

توسعة القبر

يدعو الناس للميت بعد دفنه أن يوسع الله له قبره مدَّ بصره، فما مدى صحة الدعاء وما جذوره؟؟؟

روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن رجل من الأنصار، – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: (خرجت في جنازة رجل من الأنصار مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا غلام مع أبي فجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: (أوسع من قبل الرأس، وأوسع من قبل الرجلين، لرب عذق له في الجنة) (1).

وروى البيهقي، وابن ماجه، والبغوي، وابن منده – قال: غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه -، وأبو نعيم، وفي سنده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف عن الأدرع السلمي – رضي الله تعالى عنه – قال: جئت ليلة أحرس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا رجل قراءته عالية فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت يا رسول الله هذا مراء فقال: (هذا عبد الله ذو البجادين)، فمات بالمدينة، ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (أرفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله) وحفر حفرته فقال: (أوسعوا له أوسع الله عليه) فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه، فقال: (أجل إنه كان يحب الله ورسوله) (2).

السؤال: ما علاقة توسعة القبر بوجود (عِّـذق) له في الجنة؟(3)

الجواب – والله أعلم – ان الرجل وهو ذو البجادين (4) المحبّ لله ورسوله والذي يبشر بالجنة هنا، أراد رسول الله أن يستبشر بحاله كلُّ محبٍّ لله ورسوله فيرى قبره واسعا ً فسيحا ً فتهنأ نفس أهله وذويه وفاقديه.

الأمر ليس أكثر من الاستبشار، والله أعلم.

يؤكد منحانا الذي ذهبنا إليه قصة وفاته فقد تُوفي ذو البجادين في الطريق في غزوة تبوك، وكان مما أكرمه الله به أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره، وأعلَنَ رضاءه عنه، قال ابن حجر في الإصابة: كان ابن مسعود يحدث قال: قمت في جوف الليل في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، فإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته فلما دفناه قال: اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه اهـ.

والشعلة إنما صنعوها للإضاءة على الحافرين وتسهيل عملية الدفن ليلا ً، ذلك أنَّ الوفاة حدثت ليلاً، ومن السنّة أن يعجَّل بدفن الميت حتى لو كان ليلاً، ولا يؤجل إلا لضرورة عدم وجود النور.

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ياليتني كنت صاحب الحفرة. يقصد ذا البجادَيْـن.

وقد ذكر قصة وفاته في تبوك بالإضافة إلى ابن حجر العسقلاني في الإصابـــة: ابن عبد البر في الاستيعاب؛ وإن كان البيهقي وابن الأثير ذكرا أنه تُوفي بالمدينة ولعلَّ الصحيحَ الأوّلُ.

وهناك روايات تفصيلية لعلها تلقي الضوء على قصد ذي البجادين، منهـــــا:

اسمه الحقيقي هو عبدالعزى المزاني من قبيلة اسمها المزانية تقع بين مكة والمدينة. مات أبوه وأمه وهو طفل فرباه عمه، وكان غنياً جداً فصرف عليه أموال كثيرة جداً.. كبرعبد العزى المزني حتى وصل ستة عشر سنة ـ وجد نفسه معه أموال كثيرة جداً، وكان مدللاً جداً لدرجة أنه لا يرضى أن يرتدي الملابس التي تصنع في بلده بل تأتي له من الخارج، وكان عنده فَرَسان يبدل عليهما.. وكانت بلدته تعبد الأصنام.. وفي هذا الوسط المادي يجتمع بنفر من الصحابة كانوا  

ذاهبين من مكة الى المدينة ويشاء أن يسمع الكلام ويتأثربه فيعلن إسلامه وتتغير حياته مائة وثمانين درجة ويبدأ رحلة التغيير والجري خلف العلم والتفقه في الدين والبعد عن الرفاهية وحياة الترف.

انه يريد أن يقترب من ربنا وقال له واحد من الصحابة مرة: لماذا تنتظر في بلدك؟

هاجر الى المدينة. فيقول له: وأترك عمي ؟! كان يحب أن يعتنق عمّه الإسلام لكن عمه كان في واد وهو في واد ، لقد سلبه هذا العم كل شيء لما علم باسلامه، وهاجر الرجل الى المدينة بهيئة مزرية في بجادٍ من الجلد شقَّه اثنين ووفد على الرسول الأعظم فسماه عبدالله ذو البجادّيْن.

 —————————–حاشية:

(2) أحمد 5 / 408.

(3) ابن ماجه 1 / 497 (1559) وفي إسناده موسى بن عبيدة ضعيف.

(3)العَذق بفتح العين هو شجرة النخيل، والعِذق بكسر العين هو عنقود البلح.

(4)ذو البجادين: إنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد نهم المزني، ولُقب بذي البجادين لقصة حدثت معه ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية نقلاً عن ابن هشام فقال رحمه الله: إنما سُمي “ذو البجادين” لأنه كان يريد الإسلام فمنعه قومه وضيَّقوا عليه حتى خرج من بينهم وليس عليه إلا بجاد وهو الكساء الغليظ، فشقه باثنين واتَّزر بواحدة وارتدى الأخرى ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُمي ذو البجادين. اهـ.

وقد أثبت له ابن حبان وغيره الصحبة، وجاء في مسند الإمام أحمد وعند الطبراني في المعجم الكبير أنه كان من الأوَّاهين كثير الذكر والتلاوة والدعاء.

ويحكي قصة وفاته سيدنا عبدالله بن مسعود : .. وأنا نائم من شدة البرد وخائف من ظلام

 الدنيا.. سمعت صوت حفر في الأرض فعجبت من يحفر في هذا الليل وفي هذا البرد فنظرت في فراش النبي فلم أجده فنظرت في فراش عمر فلم أجده فنظرت في فراش أبي بكر فلم أجده

 فخرجت من خيمتي فإذا أبو بكر وعمر يمسكان سراج والنبي يحفر في الأرض فذهبت إليه

 فقلت: ما تفعل يا رسول الله ? فرفع إليّ رأسه فإذا عيناه تذرفان بالدمع يقول لي مات أخوك

 ذي البجادين …. (تأمل حب النبي للشاب المستقيم) …. فنظرت الى أبي بكر وعمر وقلت لهما: تتركان النبي يحفر وتقفان أنتما ? فقال لي أبو بكر: أبى رسول الله إلا أن يحفر له قبره

بنفسه…. ثم مد النبي يده الى أبو بكر وعمر وقال لهما: أدنيا الىَّ أخاكما.. فأخذ أبو بكر وعمر يعطون جسده للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: رفقا بأخيكم.. رفقا بأخيكم إنه كان يحب الله ورسوله فوضعه النبي بين يديه وتسقط دموع النبي صلى الله عليه وسلم على كفن عبد الله ذي البجادين ويضعه في قبره ويرفع النبي يده الى السماء ويقول له:

“اللهم إني أشهدك أني أمسيت راضٍ عن ذي البجادين فارض عنه “

د. محمد فتحي الحريري

باحث في شؤون اللغة والاسرة وعلم التربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى