ما أجمل الذكريات حين تعود بنا لأكثر من أربعة عقود، لعلاقات وطيدة بين المطوف والحاج، يوم كانت الزيارات متبادلة على مدار العام، تتخللها رسائل بريدية وبطاقات معايدة، إنها علاقة ود حقيقي متوارث من الآباء عن الأجداد، إزدان بعضها بأوآصر رحم وتبادل إستثمارات تجارية، ومن جميل الذكريات لتلك الحقبة من الزمن، حرص الحجاج في الدول الشقيقة على ربط مواعيد مناسبات أفراحهم العائلية من (زواج وختان) بموعد قدوم المطوف وعائلته، ليشاركوهم فرحتهم، تفاؤلاً بالضيف القادم من بلاد الحرمين المباركة، ولا أبالغ القول إن لبعض شيوخ الطائفة مكانة في تلك الدول، نلمسها في الإحتفالات الرسمية والمواكب المعدة لإستقبالهم من المطارات عبر الضواحي والقرى، وبمرافقتي لوالدي غفر الله له والمسلمين في تلك الرحلات القديمة، العديد من الذكريات الجميلة، يحتاج سردها إلى صفحات.
نعم إنها علاقة ود وتبادل لكرم الضيافة التي تشتهر به تلك الدول الشقيقة، يقابلها كرم الضيافة السعودية في رحلة الحج والعمرة، إذ يستبشر أهالي مكة المكرمة بإستقبال وفود الحجيج بتزيين شوارع الحواري بالبرزات التي يحرص على إنشائها المطوفون، يقدم خلالها الأهازيج الحجازية الغير طربية وماء زمزم والشاهي والمشروبات المكية المعروفة، نعم.. هي الذكريات ننسجها بخيال وآهات، نستذكر خلالها الماضي الجميل لذلك المطوف، الذي خصه الله سبحانه وأكرمه بالتشرف في خدمة ضيوف الرحمن، وكم للحج عندي وعند الكثيرين حلو الذكريات، إذ كانت الفرحة تعم الدار كله، بل حتى أمهاتنا رحمة الله عليهن كن يستبشرن بقدوم الحجاج، بالمشاركة في إستقبال النساء منهم، ولا غرابة في الأمر، فذلك ضيف الله قادم، إذ كنا نستعد له بوجبات شعبية ومساكن منظفة، وبدوارق زمزم مبخرة، يوزعها الأخوة الزمازمة الكرام بكمية تتناسب وعدد حجاج المنزل، نستقبلهم في برزة مجملة بالانارة والمشروبات الحلوة والشاهي بأطيب النكهات، وبعد إن يستقر ذلك الضيف الكريم ويرتاح من عناء السفر، يصطحبه المطوف أو إبن المطوف إلى المسجد الحرام للطواف والسعي، وقد كنا نحفه بمشاعر الفرح وبتهليلات وترحاب و(أهلاً وسهلاً ويا هلا ومرحبا)، لنزف بهم البشرى لأهل الحي، وبكل زقاق يمرون به، في طريقنا إلى المسجد الحرام، وبعد سكون الحجاج في دارهم بمكة المكرمة لأيام معدودات ، نجهز لهم الحافلات التي كانت بدائية وبلا تكييف ومنها المعروفة بمسميات محلية (الزيتوني والمنقاوي وأبو عيون جريئة)، لتقلهم إلى المشاعر المقدسة بدءً بالتروية بمشعر منى، ولنا ذكريات في تلك الخيام البدائية، والتي يتم تشييدها وفرشها بالحنابل وحافظات الثلج وأتاريك القاز (أبو طربوش)، ويحرص المطوف والحجاج على أداء دعاء يوم عرفات بصوت جهور، تتبعه النفرة إلى مزدلفة والمبيت في منى، لأداء نسكهم، يعودون بعدها بأيام إلى بلادهم محملين بفضل الله بأجمل الذكريات عن البلد المضياف وأهله، ولقد كانت وسائل النقل والطرقات بسيطة، تستغرق فيها رحلة الحاج الساعات الطوال، إذا قورنت بأيامنا المعاصرة، بعد أن تغيرت الأحوال وأصبحت بفضل الله ثم حرص حكومتنا السعودية حفظها الله على راحة ضيوف الرحمن، صارت رحلتهم إلى المشاعر المقدسة من أسهل الأسفار، على طرقات متعددة مدعومة بالحافلات الحديثة والمكيفة وقطار المشاعر، الذي يعد قفزة حضارية معاصرة، وخلاصة القول: كان للمطوف الدور الرئيس في خدمة ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين، في إسكانهم بمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، تتوجها علاقات الودٍ وتبادل الزيارات على مدار العام، ولا يفوتني القول بأن يشاركنا في جميع دورة الحج وأعماله، أبناء الوطن من القرى والمدن المجاورة، للمساهمة في الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن، إذ في الحج منافع للحجاج والقائمين على خدماتهم، أتمنى أن يحافظ عليها شبابنا من الجيل الصاعد، لتبقى (خدمة الحاج شرف ومسؤولية وأمانة)، وختاماً..اسأل الله القدير أن يجعله موسم خير وبركة علينا وعلى الأمة الإسلامية جمعاء وأن يحفظ بلادنا من كل سوء،،
عبدالرزاق سعيد حسنين