توقفنا في المقال السابق عند السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إلى أي مدى صحة ادعاءات طائفة قريشي في الهند نسبها إلى قبيلة قريش في مكة المكرمة؟
وقبل الخوض في غمار الحديث عن ذلك يستحسن إلقاء الضوء السريع على خلفية الهجرات العربية والهندية في العصور الإسلامية.
لقد أدت العلاقات التجارية بين الهند والمناطق العربية؛ لا سيما منطقة الخليج العربية والجزيرة العربية إلى الهجرات المتبادلة والاستقرار في المدن الساحلية الهندية والعربية في جميع العصور التاريخية. وفي الواقع كان للعرب بما فيهم قبائل الجزيرة العربية مستوطنات تجارية على طول الشريط الساحلي في جنوب الهند والجزر المجاورة لها من دول شرق آسيا وجنوبها، لا سيما في الموانئ التي كانت توجد بها جاليات تجارية عربية، من ساحل الهند الغربي والجزر المجاورة لها مثل سيلان ومالديف، فكل هذه الهجرات كانت تجري في سبيل النشاطات التجارية وتطويرها، وذلك قبل البعثة النبوية وبعدها.
وكانت الجاليات العربية التجارية تحظى بكل تقدير واحترام لدى ملوك المناطق الساحلية الهندية، حتى أطلق على هذه الجاليات العربية “موپلا” بلغة مليالم أي “طفل بزرگ” أو “نوشاه”، بالفارسية، والعريس الجديد بالعربية، وهو لقب فخري يُلقّبُ به الراجواتُ الجنوبية الأسَر المحترمة الوافدة عليهم، كما منحوهم الدرجة الاجتماعية العالية حسب درجات البراهمة عندهم. إذن نستطيع القول بأن الجالية “موپلا” أصلهم من القبائل العربية التي استوطنت في هذه المنطقة عبر العصور التاريخية.
ولا شك أن نشاطات العرب البحرية مهدت الطريق لتجار العرب لممارسة العملية التجارية واستقرار كثير منهم في هذه المناطق المذكورة سابقًا، فظلت هذه الرحلات التجارية والثقافية بين العرب والهند مزدهرة في العصور التاريخية كلها.
واستمرت الهجرات المتبادلة بين الطرفين بعد البعثة النبوية وفي زمن الخلافة الراشدة، إلى أن قامت الدولة العربية في السند والملتان في عصر الدولة الأموية، وأسهمت في تطوير هذه المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وعمرانيًا، وبعد الرصد من خلال المصادر المحلية وأوصاف الجغرافيين الرحالة للمدن والموانئ والعمارة الإسلامية التي أنشئت بعد الفتوحات الإسلامية بيد محمد بن القاسم الثقفي وخلفائه، نستطيع أن نحدد أهداف الفتوحات الإسلامية الأولى، حيث تفيد المصادر أن الإدارة الإسلامية بعد الفتوحات لبعض المناطق الهندية خططت للمسلمين أحياء كثيرة، وبنت بها مساجد كأول بناء وجلبت إليها أربعة آلاف أسرة عربية من بطون الجزيرة العربية.
وقد زادت مثل هذه الهجرات العربية والهندية المتبادلة في عصري كل من الدولة الأموية والعباسية، وفي هذا الإطار تفيد بعض المصادر الهندية بوصول بعض أبناء وبنات الحسين رضي الله عنه إلى المناطق الهندية الغربية والاستقرار بها، وكذلك هاجرت بعض الأسر الموالية لأهل البيت بحثًا عن الملاذ إلى السند والملتان في عصر الدولة الأموية والعباسية .
وعلى أية حال عندما سقطت الدولة العباسية في بغداد، اضطرت أسر العلماء والصوفية والتجار وغيرها إلى الهجرة من بغداد ومناطق آسيا الوسطى إلى الهند، وكانت سلطنة دهلي في أوج عزتها وعنفوان قوتها إبان تلك الفترة، وتمكنت من الوقوف أمام هجمات المغول المتكررة والتي استمرت إلى فترة طويلة. وتفيد المصادر المعاصرة بأن لدى وصول الأسر من دول آسيا الوسطى وبغداد وغيرها أمر السلطان غياث الدين بلبن المتوفى 686هـ/1287م بإنشاء الأحياء الخاصة بهم بأسماء عديدة، ومنها، حي عباسي، وسنجري، خوارزم شاهي، ديلمي، علوي، آتابكي، غوري، چنگيزي، رومي، سنقري، موصلي، سمرقندي، كاشغري، خطائي، مغولي وغيرها. وقد اشتهرت أسر هذه الأحياء فيما بعد لا سيما في عصر الدولة المغولية بألقاب ذاتها أي عباسي، وسنجري، وخوارزمي وهلم جرا.
د. صاحب عالم الأعظمي الندوي
0